طقوس الكنيسة الحديثة (الشرقية أو الغربية) قائمة على فكرة “المحاكاة” أي إعادة تمثيل مشهد إنجيلي بنفس حذافيره المذكورة في الكتاب المقدس، كأن يدخل المسيح أورشليم يوم السبت وسط تهليل أهلها بأغصان السعف، فيعيد المسيحيون اليوم ذكراه في مراسم مشابهة، يصنعون زفّة حقيقية، ويُمسكون بنفس أغصان السعف، ويُرددون نفس الهتافات التي قيلت يومها.
هذا البروتوكول الديني لا تنفرد به الكنيسة. الشيعة مثلًا يحيون يوم عاشوراء في طقس دموي يجرحون فيه الرؤوس والأجساد بالسلاسل والسيوف كنوع من التعبير عن الحزن على مقتل الإمام الحسين في معركة كربلاء عام 61 هجرية.
طقس “التناول من الأسرار المقدسة” هو أهم أسرار الكنيسة السبعة (المعادل المسيحي لأركان الإسلام الخمسة) والتي يجب أن يحرص المؤمن على ممارستها حفاظًا على خلاصه الأبدي بعد الموت.
أما سند ذلك الطقس التاريخي فهو واقعة اجتماع المسيح بحوارييه ليلة الخميس التي سبقت موته مباشرة، كنوع من تسليم الوعد أو العهد النهائي منه إليهم، ومن هنا سُمي بخميس العهد.
في هذه الليلة، صنع المسيح عيد الفصح اليهودي مع تلاميذه على طريقته. كسرَ خبزًا وقسّمه عليهم وأعطاهم خمرًا ليشربوه. ولأن المسيحية في أساسها تقوم على فكرة الميثولوجيا، لم يكن من الشاذ تخيّل يسوع لهذه العملية على أنها تسليم لعطاياه اللاهوتية إليهم من خلال أكل الخبز وشُرب الخمر.
واليوم، حينما يُقبِل المسيحي المؤمن على ممارسة ذلك الطقس، ففي ذهنه يقين واحد: أنه يجدد ذاته وخلاصه بالتهام جسد الرب ودمه، إذ هو ليس في نظره مجرد قربان مخبوز وعنب مختمر.
وجدير بالذكر هنا أن علاقة المسيحية بالخمر كانت على ما يرام حتى ممات المسيح، فما نال الكنيسة من بعده لم يكن سوى تأثر إسلامي، فيسوع كان مُحبًّا للشُرب والفرح، ويذكر الإنجيل أنه حضر مع أُمه مريم عرسًا ونفد الخمر من أصحاب البيت فتدخل وحوّل الماء لخمر.
الدين في زمن كورونا | بين المعتقدات الشعبية والعقائد.. هل تنجو دور العبادة من الوباء؟ | س/ج في دقائق
مع مرور الزمن، ومثل أركان أخرى أُضيف إليها وحُذِف منها على مدار عصور الكنيسة، منذ ولادتها كفكرة يسوعية إلى صيرورتها مؤسسة دينية، وضعت رتوش كثيرة على طقس التناول فصار الخمر (الدم) يُقدّم للمُصلين باستخدام المستير (ملعقة)، ولم تعد الكأس تدور على جموع الحاضرين كمشهد العشاء الأخير،
وكذلك بالنسبة للقُربان (جسد الرب) صار القسيس بنفسه يقتطع منه ويضع اللقمة في فمّ المُتناوِل كأنه يُطعم ابنه أو ابنته، ولم يُترك رغيف القربان للمؤمنين ليقتسموه بينهم؛ لأن ذلك يجعل الرغيف عُرضة للسقوط أو التمزق ولو على سبيل الخطأ، الأمر الذي يتنافى مع القدسية البالغة التي تسبغها عليه الكنيسة بعدما لم يصر مجرد عجين مخبوز، لدرجة أنه لو سقط شيء من فُتات القربان أثناء الصلاة، ينحني الكاهن ومعه الشمامسة ليبحثوا عنه بشمعة قبل أن يدهسه أحد بقدميه.
ومع اندلاع كورونا ظن الأقباط المُتعسكرون داخل كنائسهم أن مدّ الجائحة لن يصل لمذابحهم؛ ليس لأنهم لا يملكون الوعي الكافي، مثلهم في ذلك مثل بقية الشعب في تحديد تحركات ذلك الفيروس التاجيّ الوافد، لكن لأن أغلبهم استهجن من الأساس فكرة أن يوضع ذلك الطقس المُقدس ضمن لائحة المُسببات البديهية التي قد تعمل على تفشي انتشار كورونا. واعتبروا بدورهم المستير (الملعقة) التي تختلط بلُعاب من 20-100 فردًا حسب كثافة الكنيسة ومناسبة القداس، حرزًا مقدسًا لا يمكن المساس به.
وهناك مَثل إنجيلي يقول “لا تطرحوا دُرركم قُدّام الخنازير” يبدو أنهم اعتمدوه في ردة فعلهم لأنهم استنكروا “تطاول” القنوات الفضائية والمواقع الصحفية طالما وضعت، من وجهة نظرهم، أمرًا خاصًا كهذا على موائد مناقشاتها، مُعتبرين في خندقهم الميثولوجي أن كورونا مثلها مثل الروح الإبليسية: لا يمكنها أن تقرب المذابح والأواني المقدسة.
إسرائيل | كورونا ينتصر للعلمانية على الحريديم.. هل انهزم المتشددون إلى الأبد؟ | س/ج في دقائق
مع تفاقم الأزمة وارتفاع عدد إصابات ووفيات كورونا بالتوالي، انقسم الأقباط على السوشال ميديا بشكل واضح لفريقين: الأول الدوجمائي: يرى أنه لا مجال للحديث من أساسه عن إغلاق أبواب الكنائس أو استبعاد عنصر (المستير) احترامًا لقدسية الطقس.
أما الفريق الآخر فاقترح الاستغناء عن الملعقة بشكل مؤقت حتى تمر هذه الغُمة عن العالم بسلام، على أساس أنها مجرد “أداة” تؤدَّى بها العملية ولا تكمن القدسية في معدنها.
لكن الاقتراح أثار حفيظة التقليديين الذين اعتبروه انتقاصًا من عقيدتهم، بل واعتبروا إهمال ملعقة معدنية تفريطًا في جوهر الطقس ذاته، كما خشوا أن يؤدي أي تحريف في ممارساتهم للتشبّه بطوائف أخرى. حتى تكفّل المجمع المقدس بحسم المسألة حين خرج في 21 مارس 2020 ببيان يُغلق فيه كل أبواب الكنائس ويوقف كل القداسات والخدمات الطقسية والأنشطة الاجتماعية.
وهنا معضلة لن يُكشف عنها إلا بعد زمن في كُتب التاريخ: هل البطريرك هو الليبرالي المُتسع وكان في نيته قرار الغلق لكنه يخشى الاتجاهات المُحافظة داخل المجمع المقدس، أم أنه كتم أصواتًا نادت بقرار الغلق من أول يوم؟
تناقض النصوص | هل غضب الله على البشر فسلط عليهم كورونا الجديد؟ | عبد السميع جِميل
ومع رجوع مؤسسات الدولة لفتح أبوابها تدريجيًا باتّباع الإجراءات الاحترازية، تظهر لدينا فجأة خمس حالات وفاة بكورونا في قطاع الكهنة الأرثوذكس! بلا تفسير سوى أن الكنيسة سلكت طُرقها القديمة وأُقيمت القداسات بنفس الروتين الطقسيّ تحت ضغط التيار المُحافظ، لكن الأجهزة المعنية التي تصادر كل فترة الشيشة من المقاهي المُخالفة، لا تعرف أن جموع المسيحيين تستخدم نفس الملعقة وبالتالي يختلط لعاب بعضهم كل قداس.
بالرجوع للنص الكتابيّ نكتشف أنه لم تُذكر أي ملعقة “المستير” في أي من الأناجيل الأربعة، وحتى الكأس يبدو من الوصف أنها كانت عادية بلا نقوش أو فصوص، بل إن المشهد تم ببساطة تتسق مع رجل ثوري مغضوب عليه من قِبل مجتمعه، قرر الاختلاء بمجموعته في مكان سريّ هادئ ليُفضي لهم بسرّ اعتبره أساس ديانته، التي سيتركها وديعة لهم الليلة، قبل أن يمضي لحتفه.