عشائر غرب العراق.. لم يكتبوا كثيرًا عن تاريخهم في المنطقة الغربية من العراق، فما هو متاح في ثبوت النسب لا يكشف أسباب وجودهم في ظروف مناخية قاسية، ولا عقائدهم الدينية.
ما كُتب عنهم اكتفى بطابع سردي في غالبيته، يهدف لإظهار الفخر بأنسابهم وعروبتهم، والرد على حكايات كتاب ومثقفي المدن التي تنال منهم.
تلجأ عشائر تلك المنطقة إلى التاريخ الذي ينسبهم إلى عشائر الجزيرة السورية وشرق الأردن والجزيرة العربية فيما يخص الجذور والهجرات وأسبابها، والعقائد والشرائع.
هم في الغالب مسلمون على عقيدة أهل السنة والجماعة، ويقلدون في الفروع مذهب الشافعي، والقليل منهم على مذهب الحنابلة ومذهب أهل الحديث، ولم تسجل عنهم تحولات كبيرة في هذا الشأن.
كل ذلك في معظمه تأريخ سطحي، ينافح لأجل تزكية عقائده وطهورية شريعته من البدع والخرافات.
لا تظهر عشائر شمر وعنزة والعكيدات والدليم والراويين والجحيشات، في التدوين التاريخي إلا مع القرن السابع عشر الميلادي، مقرونًا بفرمانات الحقبة العثمانية.
ما قبل ذلك مجرد أخبار متناثرة في بطون كتب التاريخ، بخلاف عشائر طيء والبوحمدان، الذين ذكرتهم كتب التاريخ المتقدمة في مناسبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية.
مقاربتنا للعشائر العربية السنية غرب وشمال غرب العراق مبنية على كونها عشائر عربية منسجمة في عقائدها وأخلاقياتها وسلوكياتها، بما ينبغي أن يصار إليه في تحليل مواقفها السياسية والدينية والقومية بعد عام 1921.
هذا الانسجام يظهر كواقع في حياة العشائر السنية العربية، سواء صنفت على أساس الدين أو النسب، أو وجدت في جغرافيا غرب العراق.
مشتركات كثيرة ومتداخلة، تشمل أعرافًا وتقاليد وعادات متوارثة بحكم اللغة واللهجات والمذهب الديني والعرق العربي في تلك المنطقة الجغرافية أو غير ذلك.
هذه المشتركات تتيح الحديث عن نظام اجتماعي عام يكاد يميز العشائر العربية غرب العراق عن غيرها، ويجعلها مشتركة في الظواهر الاجتماعية أو المشاعر أو العقائد وحتى الخيال والخرافات.
اقرأ أيضا: الدولة المريضة بالميليشيات
نشأت معسكرات الجماعات السلفية الجهادية كردة فعل على تردي العلاقات بين قيادات حكومة نوري المالكي والعشائر السنية في المنطقة الشمالية والغربية في نهاية 2012.
ظهرت في ذلك الوقت منصات الاحتجاج، التي عرفت بـ”الحراك السني الشعبي” وهي خليط من البعثية والصوفية والإخوان والسلفية الجهادية والعشائرية.
وبسبب احتدام الصراع بين “المالكي” ورافع العيساوي على تعزيز السلطة والنفوذ، تداعى عدد من شيوخ العشائر وأئمة المساجد وعلماء الإفتاء السني وقادة الأحزاب في المناطق السنية للإطاحة بطموح «المالكي» بولاية ثالثة.
النواة الصلبة من تنظيم القاعدة فرع العراق استثمرت هذه البيئة الغاضبة لتنتشر في مدن وخيام الاعتصامات، وتعقد مجالس لأخذ البيعة لزعيمها أبو بكر البغدادي.
حقق التنظيم بفضل تلك التحركات انتشارًا وتوسعًا كبيرًا وسريعًا، بعدما انحسر نفوذه عدا في مناطق حوض الثرثار وجنوب نينوى ووادي حوران وجزيرة راوة، وبعدد لا يتجاوز ألف إرهابي في كل العراق، وبإمكانيات اقتصادية ضعيفة.
نشأت “داعش” على الحدود الغربية العراقية والشرقية السورية، بإهمال حكومتي بغداد ودمشق ومباركة بعض أبناء عشائر تلك المناطق الجغرافية، ومثل البعد الاستراتيجي الدافع الكبير وراء ذلك.
طغى البعد الاستراتيجي في التعامل مع نشأة “داعش” واخواتها؛ كونها ضد بغداد، وتزعم أنها مع السنة، ما دفع غالبيتهم للسكوت عنها طيلة 2013، بينما لم تكن الحكومة متهمة بكيفية تعامل التنظيم مع أهالي تلك البيئة، اعتقادًا أنه شأن يخصهم، وأن شرها يقع على خصوم بغداد.
صحيح أن إرهابيي “داعش” تربوا في المساجد الحدودية العراقية والسورية، لكن الموروث العشائري والعادات والتقاليد الريفية في مناطق الحدود، سيما لعشائر البادية، تركت أثرًا مهمًا في البناء الفكري لعقلية التنظيم المتمردة.
تبدو الخلفية الفكرية لـ”داعش” إذًا حصيلة جهد المساجد ذات المناهج التكفيرية القطبية البدوية المتوحشة.
الأجهزة الاستخبارية العراقية أشارت إلى نجاح تنظيم القاعدة في لملمة نفسه في مناطق الحدود الغربية خلال الفترة بين 2012 و2014، والحصول على الدعم اللوجستي والمادي والعسكري من متعاونين محليين، في مقدمتهم عشائر حوض الفرات والبادية.
ساهم الدعم المحلي في تحويل غرب العراق وشرق سوريا إلى ما يشبه مجال التنظيم الحيوي الذي تنشط فيه خلاياه النائمة بحرية شبه كاملة في علاقة وثيقة مع شبكات تهريب السلاح والنفط وزراعة القنب الهندي وتهريب المخدرات والآثار.
اقرأ أيضا: هل نجحت الانتخابات التشريعية العراقية 2018؟
تواجه إجراءات مكافحة إرهاب الحدود تحديات قد تعرقل جهود القيادة العراقية لمواجهة خطر الإرهاب الذي يهدد نينوى وصلاح الدين والأنبار وكربلاء والنجف، مع تردي معدات وتقنيات حرس الحدود، وعدم قدرة بغداد وحدها على الخروج من الأزمة.
هذا القصور قد يخدم عودة الإرهاب كعصابات متمردة تقطع الطريق وتهاجم أطراف المدن والقرى، حيث يُعتقد أن عدد فلول داعش في مناطق البادية العراقية وجنوب نينوى يصل حوالي 800 إرهابي.
رغم تحرير القوات المشتركة العراقية لأكثر من 98% من المناطق السكنية، إلا أنهم لا يزالون يمثلون خطرًا على الأمن القومي للبلاد.
تعاظمت قدرة القوات المشتركة على التعامل مع حرب المدن، خاصة مع وجود قوات نخبوية، لكنها تبقى ضعيفة في مسك الأرض والمرابطة في أطراف المدن والقرى الحدودية.
هذه الإشكالية تلزم القيادة بزيادة أعداد المنتسبين لقوات حرس الحدود، وتوفير ما تحتاج إليه هذه القوات لتخصيص أعداد أكبر للقيام بأعمال المراقبة والمرابطة.
اتخذت فلول داعش من منطقة الحدود قواعد لإنهاك قوات المرابطة عبر هجمات نوعية في عدة مدن، بينها الرطبة والرمادي وهيت وكبيسة وغرب صلاح الدين.
تلك الهجمات استهدفت استنزاف حرس الحدود، أو التمويه قبل تنفيذ عملية كبيرة وفقًا لأسلوب عمل التنظيم، وهو ما يتسبب في ارتباك عمل هذه القوات، واستنزاف جهودها لمواجهة أية تهديدات محتملة.
ويعاني العراق من صعوبة توفير مصادر معلومات داخل قيادة داعش، عدا جهود عمليات المخابرات وخلية الصقور الاستخبارية، والتي تعتمد بشكل كبير على مصادر من العناصر أو القيادة الميدانية، لكن داعش لا يزال يتمتع بنوع من الأمن الخاص لشخص «البغدادي»، ما يمثل صعوبة أمام الأجهزة الاستخبارية لاختراقها.
التنسيق العراقي مع التحالف الدولي لتوحيد جهود مكافحة إرهاب الحدود بات إذًا ضرورة، بزيادة عدد قوات حرس الحدود، وتدريبهم كقوات قتالية محترفة.
المكافحة تتطلب كذلك عزل الحدود الغربية التي تمتد لمسافة 605 كم، وتوفير المروحيات القتالية وطائرات المراقبة بدون طيار على مدار الساعة، والأبراج المحصنة والنواظير عالية الدقة.
الحدود لا تزال تعاني من خطر مئات الإرهابيين الموجودين فيها، والذين ساهم بعضهم في مرحلة ما بعد أحداث عام 2012 في تقوية القاعدة فرع العراق ومن ثمة تأسيس داعش في أبريل 2013.
خلاصة القول، أن تهديدات إرهاب الحدود تمثل خطرًا متزايدًا على الأمن القومي العراقي، كما تمثل تحديًا كبيرًا للأجهزة الاستخبارية وحرس الحدود المنوط بها مواجهة هذه الفلول الإرهابية.