لاحظ كاتب السطور من متابعة لتقرير أذاعته قناة “بي بي سي” العربية التليفزيونية، عشية الضربة الصاروخية على المواقع السورية، أن أغلبية المُستطلعة آراؤهم من عددٍ من العواصم العربية (القاهرة/ بغداد/ بيروت) يقفون بوضوح ضد الضربة الصاروخية، ويعتبرونها عدواناً على الدولة السورية، وعنواناً لازدواجية المعايير على الساحة العالمية وانتهاك الشرعية الدولية.. إلى آخر الخطاب الذي أُخمن أن القارئ يعرفه ويحفظه عن ظهر قلب.
كان لهذه الآراء وقع الصدمة علىّ. إذ كيف يُمكن للرأي العام العربي أن يُشيح بوجهه عن آلامٍ السوريين التي نراها كل يوم على الشاشات؟ كيف يظل هذا الوعي الجماعي غائباً عن المجزرة السورية، ثم يصحو – فجأةً!- ليُدينَ بضع ضرباتٍ لن تُقدِم ولن تؤخر، قبل أن يعود مُجدداً لسُباته العميق؟
ليس الأمرُ مجرد جهل بتعقيد الأحداث السورية. ليس الأمرُ انعكاساً لكراهية تقليدية للغرب. في القصة ما هو أكثر..
من الآثار غير المباشرة للضربة الأمريكية على بعض المواقع السورية (المتورطة في إنتاج السلاح الكيماوي) أنها أعادت بعث التيار البعثي. منحت هذه الضربات قبلة الحياة لتيارات سياسية لا تستطيع العيش من دون التغذي على عداء الغرب. فجأة اختفت تعقيدات الحرب السورية البادية للجميع، ليظهر خطاب لا أقول إنه عروبي، بل هو “بعثي” في المضمون والجوهر… يؤيد النظام السوري البطل في وقفته ضد العدوان الغاشم!
لأن المأساة السورية تقع على رؤوس عربٍ في الأساس. المضروبون بالسلاح الكيماوي عربٌ. والمُهجرون والمُشردون عرب. واللاجئون في بلاد الله عربٌ. ولا يُمكن أن يُنعتَ بالعروبة موقفٌ يغُض الطرف عن هذه المأساة الكبرى، أو يتعامى عن مسئولية النظام الحاكم عنها. العروبةُ في جوهرها تضامن وجداني/ تاريخي بين مواطنين تجمعهم الثقافة واللغة، ووحدة المصير، وتشابه التحديات والتهديدات، وتطابق الألم والمعاناة. هذه الروح التضامنية العروبية لا يُمكن بأي حال أن تمُر على هذا “الجحيم السوري” مرَّ الكِرام، أو أن تراه ظِلاً لمؤامرة دولية كُبرى على سوريا، لا أكثر.
الحقيقة أن الخطاب المُعارض للضربات الأمريكية (وبالتالي المؤيد للنظام السوري) خطابٌ بعثي بامتياز. البعثُ واحدٌ من أكثر التيارات السياسية فاشية في العالم العربي. هو وظف العروبة لصالحِ إقامة أنظمة دموية في سوريا (التي حكمها منذ 1963)، والعراق (التي حكمها منذ 1968). العمود الفقري لفكر البعث وممارسته ليس الرابطة العروبية كما قد يبدو ظاهراً، وإنما “حكم الأقلية المتوحشة”. الأقلية السُنية حكمت العراق باسم العروبة، والأقلية العلوية حكمت سوريا باسم العروبة. كلتاهما مارست درجاتٍ مروعة من الوحشية في مواجهة الشعب. كلتاهما جلبت التدخل الأجنبي للمنطقة. كلتاهما ضربت الشعب بالسلاح الكيماوي. كلتاهما أقامت نُظماً ميلشياوية/أقلوية أبعد ما تكون عن مفهوم الدولة المؤسسية الدستورية.
كل معارك “البعث” هي – في جوهرها العميق- جولاتٌ للدفاع عن نُظم الأقلية. يُخطئ المصريون – بالذات من المؤيدين للدولة المصرية- إن هم توهموا أن تأييدهم للنظام السوري هو من قبيل دعم الدولة في مواجهة الميلشيات الإرهابية التكفيرية. في سوريا الدولة ذاتها ليست سوى واحدة من الميلشيات الكبيرة. ما أبعد المسافة بين الدولة المصرية العتيدة .. والدولة/ الميليشيا في سوريا.