بعض المتابعين لا يفهمون دوافع التصعيد الإيراني، فهو أبعد ما يكون – من وجهة نظرهم – عن المصلحة الإيرانية. ثم إنهم يستخدمون وجهة نظرهم تلك في نفي المسؤولية الإيرانية عن التصعيد، والادعاء بأن المسؤولية مدسوسة عليهم. وإيران تحب هذا ولا تنفيه بقوة. لكنها في الوقت نفسه تستخدم جيشها الإعلامي للتأكيد لجمهورها أنها المسؤولة عنه.
فهل إيران خلف التصعيد أم مدسوس عليها؟ وهل هذا رد فعل أرعن منها أم سياسة مدروسة؟
إيران خلف التصعيد قولًا واحدًا. ليس هذا قولي، استمعوا إلى المحللين المحسوبين عليها. وهي خلف التصعيد بالنظر إلى أماكن التصعيد. كلها صناديق بريدية عليها الرمز البريدي لإيران، وإيران فقط تملك مفتاحها.
أما القرار بالتصعيد فمدروس بعناية. لتحقيق غرضين لا غنى لإيران عن أيهما:
الغرض الأول هو تجنب إطالة الضغط. لأنها مهلكها. الضربات العسكرية على سلبياتها أفضل لإيران حاليًا من الضغط. الحرب ستستدعي قيلًا وقالًا دوليين عن الحكمة منها، ومدى عدالتها. لا تنسوا أن إيران – رسميًا – لا تزال ملتزمة باتفاق مع أربع دول كبرى.
إما إطالة الضغط، بهذا الحزم، فسوف يفتح الحكم في إيران على وضع شبيه بما حدث في العراق بعد حرب الكويت. حين فقد صدام حسين قبضته الفعلية على البلد.
نستطيع أن ننظر إلى الموضوع بصورة أوضح إن عكسنا السؤال إذن: ماذا سيحدث لو لم تصعد إيران؟
إجابة هذا السؤال تحيلنا إلى الغرض الثاني الذي من أجله كان طبيعيًا أن تصعد إيران الخمينية.
بالإضافة إلى الأثر الاقتصادي إن استمر الضغط، هناك الأثر المعنوي، وهو لا يقل أهمية في نظام عقائدي، بنى شرعيته على أنه نظام مقاتلي الله الغالبين، والواقف في وجه الغطرسة والشيطان الأكبر.
الفتونة الخيرة، الروبين هودية الإسلامية، لها قوانينها وشروطها. أبرزها أن يستطيع الفتوة، الأبضاي الإلهي، حماية أهل الحارة. هذا هو المقابل الوحيد لما يفرضه عليهم من حياة نغصة. لا بد لإيران أن تذكر جمهورها العقائدي كل يوم أنها تجاهد، وتمنحهم الأمل بـ “فئة قليلة غلبت فئة كثيرة”. على هذا قام المشروع.
لكن الضغط الحازم المستمر له أضرار لوجستية أيضًا. إيران تعتمد في كل ما فات على تحريك تابعيها الناطقين بالعربية، في لبنان واليمن والعراق. هؤلاء التابعون “أكلهم وشربهم وإعاشتهم وأسلحتهم، من الجمهورية الإسلامية في إيران”، على حد قول حسن نصر الله.
الجماعات الأيديولوجية.. من النضال إلى الإجرام
يعطيك من طرف اللسان حلاوةٍ.. جماعات النضال الأيديولوجي، حزب الله – فارك – الخمير الحمر – الجماعات الشيوعية وغيرهم، يقدمون أنفسهم بشيء لكن الواقع شيئا آخر. في هذا الفيديو الوهم والحقيقة في ما يقولونه وما يفعلونه.
Posted by دقائق on Tuesday, June 18, 2019
لو فقدت إيران القدرة اللوجستية على إعاشة هؤلاء التابعين الجدد سيصابون بالغرغرينة. ويتساقطون ظفرًا، فإصبعًا، فقدمًا، فساقًا، ثم يصير عقيمًا، فهشيمًا تذروه الرياح. بل حتى لو أن إيران أدركت أنها ستفقدهم، وأيقنت ذلك، فمن المناسب جدًا الآن أن تبدأ في الحصول على مردود ما أنفق عليهم.
من هنا كانت البداية من الحوثيين. لأنها تستطيع أن تضحي بهم. ولأنها تعلم – لعوامل ثقافية – أن رد فعل السعودية ضدهم لن يكون كرد فعل إسرائيل ضد حزب الله لو فعل مع إسرائيل عشر ما يفعله الحوثيون مع السعودية.
س/ج في دقائق: كيف تحول شيعة أفغان لمحاربين بالوكالة في سوريا؟
س/ج في دقائق: ماذا لو حسم الحوثيون الصراع في اليمن؟
لماذا ظهرت المواجهة بين إسرائيل وإيران في سوريا إلى العلن؟ | س/ ج في دقائق
إجراءات ترامب الاقتصادية ضد إيران تضرب حزب الله؟ | س/ج في دقائق
إسرائيل: عملية لتدمير أنفاق حزب الله، ولها مآرب أخرى؟ | س/ج في دقائق
يبق عامل أخير يجعل قرار إيران بالتصعيد القرار الطبيعي: اتجاه الريح دوليًا.
بريطانيا كانت في بداية الأزمة تعبر عن دعمها للموقف الأوروبي والتزامها بالاتفاق النووي. الآن صارت مع الولايات المتحدة أو إليها أقرب.
روسيا صامتة، التصريح الأبرز في الأزمة أنها لن تعمل كعسكري إطفاء في العالم. كما أن لها مصلحة في حصر نفوذ إيران الإقليمي الذي توسع – للمفارقة – في مناطق نفوذ سوفييتي سابق، ولها مصلحة في تفاهم مع أمريكا لكي تبقى صامتة على ضم شبه جزيرة القرم. وهي بصدد اجتماع مهم للغاية على أعلى مستوى أمني مع إسرائيل والولايات المتحدة، لتنسيق المواقف في المنطقة.
كل هذا، وتجربة العراق، تقول لإيران إن وقوع البلاء خير من انتظاره، وأن المواجهة في الحدود التي تتخيل إيران حدوثها قادرة على إطالة الأمد، ما بين تدخلات وتجاذبات دولية، ووسطاء، إلخ.
إيران تعول كثيرًا على معرفتها بعدم رغبة الولايات المتحدة في حرب شاملة، فتريد استدعاء رد الفعل العسكري وهي لا تزال تحظى ببعض التعاطف وبعض المؤنة وبعض القدرة.
وخصومها – كما فعلوا معها في سورية – يستدرجونها إلى فقدان ذلك واحدة بعد الأخرى. حتى تأتي لحظة الغلطة الواضحة التي لا تغتفر، ولا يغتفر لحلفاء أمريكا التعاطف مع إيران بعدها.
وهذا حساب بميزان دقيق.