باحث بجامعة لوزان - سويسرا
حينما نتحدث عن الفتنة الطائفية، تحضر للأذهان حوادث توالت منذ السبعينيات إلى اليوم. الإسكندرية كانت في مركز أحداث الفتنة الطائفية منذ وقت طويل، ولكن قد تتفاجأ إذا عرفت أنه أطول مما تظن. لا أتكلم عن السبعينيات أو الثمانينيات، وإنما القرن الأول الميلادي، أي منذ ألفي عام.
سأطرح الرواية التالية المبنية على مجموعة مخطوطات ومجلدات اكتشفت على التوالي، دون تعليق مني على ما يربطها بواقع المشكلات الطائفية اليوم، وسأترك الأمر لذكاء القارئ.
أبي العزيز أشكرك على كل هذه الهدايا، لكنها بلا قيمة! أردت أن أذهب معك إلى الإسكندرية ولم تأخذني! كم من مرة طلبت منك أن تصحبني معك؟ الإسكندرية جميلة وأتمنى أن أرى حدائقها، أرجوك يا أبي!
جف الحبر على البردية التي كتب عليها الطفل ثيون كلماته الغاضبة لأبيه الذي لم يأخذه معه على سفينته النيلية شمالًا إلى الإسكندرية.
يبدو أن الأقدار كانت رحيمة بذلك الطفل، فقد كان ثيون محظوظًا لأنه لم يلحق بأبيه. فبينما كان ثيون ينفس عن غضبه في تلك البردية، كان أبوه عالقًا في الإسكندرية في وضعٍ رهيب.
ثيوناس، الأب، وصل بمركبته إلى مشارف الإسكندرية عبر عدة قنوات مائية ليرى منظرًا مهيبًا؛ فالحرائق كانت تأكل الحي الشرقي.
ثيوناس، الذي كان يتردد على الإسكندرية بشكل منتظم ويعرفها عن ظهر قلب؛ كونها مركز تجارته ونقطة تصديره للفائف البردي والسكر، أدرك سريعًا أن الأمر متعلق بيهود الإسكندرية.
طلب ثيوناس من رفقائه تغطية الحمولات التي أتوا بها وترجل في اتجاه الأدخنة. لم يحتَج ثيوناس أن يقترب كثيرًا من منطقة الربع اليهودي حتى يدرك أن النار تأكل الكنيس الأكبر في الإسكندرية. كان الكنيس الأكبر أكبر معبد يهودي في العالم خارج أورشليم، في المنطقة التي نسميها الآن المنشية، على مقربة مما يُعرف الآن بكنيس النبي دانيال.
كان الكنيس ضخمًا لدرجة أن البحارين كانوا يرونه عن بعد؛ فقبته الذهبية كانت تعكس الضوء في وضح النهار، وكانت مساحته كبيرة حتى أن الشخص لا يستطيع أن يرى آخره من الداخل، فكان هناك من خدامه من يحمل راياتٍ بألوانٍ مختلفة ليشيروا لبعضهم بها من مسافات كبيرة.
هنا تذكر ثيوناس أن عليه الرحيل سريعًا، فهذه مجرد البداية، لكنه تأخر. كل قنوات الإبحار قُطعت، وبات عليه أن يواجه ما سيُعرف تاريخيًا بالـ Alexandrian Pogrom، وهي أكبر أحداث الفنتة الطائفية في الإسكندرية بين عنصري الأمة (في الإسكندرية): اليهود واليونان، والتي امتدت لثلاثة أعوام متتالية اختُبرت فيها كل مفاهيم المواطنة، الدولة والكنيس، الأقلية والأكثرية، الحلول الأمنية.. وغير الأمنية.
استعد وجهاء يهود الإسكندرية لاستقبال ملك الدولة اليهودية أغريباس، والذي توقف في الإسكندرية مؤقتًا للراحة قبل استكمال رحلة العودة من روما، حيث التقى القيصر كاليجولا، إلى أورشليم.
كان التوقف في الإسكندرية فعليًا للقاء أغنى يهود العالم، الذين كانوا يعيشون في تلك المدينة العظمى، والذين كانوا يغرقون هيكل أورشليم بتبرعاتهم السخية ـ حتى أن أجمل أبواب الهيكل كانت بتبرع من وجيه يهودي مصري يُدعى نيكانور، والتي كانت البوابة الوحيدة المتوهجة بلمعان الذهب والأحجار الكريمة، فسماها يهود أورشليم بباب الإسكندرية الجميل.
لكن الجو المشحون حول الوضع إلى كارثة؛ فبمجرد وصول أغريباس، أصر بعض رجال الدين اليهود على استقباله بشكل شبه احتفالي في شوارع الإسكندرية، وهو على حصانه.
وبمجرد نزوله من ظهر فرسه، واجه أغريباس كمًا من الإهانات والسخرية من يونانيي المدينة، الأمر الذي أظهر الاحتقان الشديد في المدينة بين اليهود واليونان.
كان الأمر مهينًا لمن رأى في أغريباس ليس فقط ملك دولة يهودية، بل رمزا وممثلا ليهود العالم.
استمر الاحتقان بعدما رأى اليونانيون أنه ليس من حق اليهود أن يشتركوا في مجالس رئاسة البلدية؛ فلا تجوز ولاية اليهودي على يوناني.
ذهب الأمر إلى بدء مماحكات علنية مع اليهود في ميدان الجيمنازيوم الشهير بالإسكندرية، ومنع توظيفهم في أية مؤسسات حكومية أو محال تجارية خارج الربع اليهودي، الأمر الذي ساعد في انكماش اليهود أكثر.
تاريخ البشرية في ٧ قطع أثرية .. بعضها لم تسمع عنه من قبل | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
وصل الأمر إلى وجيه من وجهاء يهود الإسكندرية، المفكر الكبير فيلون اليهودي الذي ترك لنا مجلدين عن الأزمة الطائفية وكيف واجهها (Adversus Flaccum , Legatio ad Gaium)، فعقد اجتماعًا مع وجهاء اليهود في الإسكندرية، بهدف توصيف الوضع.
مبدأ المشكلة كما رآها فيلون أن من تعامل مع المسألة كهنة لا ناقة لهم ولا جمل بأزمات المدينة؛ فكونهم رجال دين لا يعطيهم أي حق للتدخل في شؤون يهود الإسكندرية، باعتبارهم ليسوا يهودًا سكندريين بل مهاجرون من أورشليم يأتون للصلاة وجمع التبرعات.
ثاني المشكلات – كما حددها فيلون – كان توصيف ما يواجهه اليهود. ليس “فتنة طائفية” بين طرفين، بل جريمة كراهية من طرف ضد آخر أضعف وهم اليهود.
أما القضية الثالثة فكانت غياب دولة القانون؛ حاكم الإسكندرية لم يتعامل مع تنامي خطاب الكراهية بأي حزم، وكسر كل القوانين الخاصة بتنظيم وضع اليهود بالإسكندرية حينما سمح بإعاقة نشاطهم خارج الربع اليهودي.
لم يسمع أحد لرؤية فيلون ووصفوها بـ “التنظير”، وباتت الحلول تُحسم من خلال لعبة التوازنات، فقرر هؤلاء مرةً أخرى الاستعانة برجال الدين واستمالة فلاخوس.
أما فلاخوس فكانت عبادته الدينية وقناعاته الأيديولوجية تمنعانه من اتخاذ إجراء يمكن أن يُغضب الأكثرية، حتى لو كان مجرد إنفاذ القانون.
كانت النتيجة أن شجارًا في ميدان الجيمنازيوم تطور إلى أحداث جديدة من الفتنة الطائفية لأن أحد اليهود لم يقدم الاحترام الواجب لتمثال إحدى آلهة اليونان في ذلك الميدان.
انفجر اليونانيون غضبًا بتحريضٍ من رجال الدين اليونانيين، وصمت يصل إلى درجة التواطؤ من فلاخوس. احترقت الإسكندرية، وتعرض الكنيس الأكبر للتدمير مجددًا، بعد تخريب أكثر من خمسو معابد يهودية أخرى.
عاد الوجهاء إلى فيلون مجددًا، فقال لهم صراحةً: “هاك الكنيس قد حُرق تمامًا، هل هناك سبب لمجيء كهنة أورشليم؟ اتركوهم. نحن أولى بأمورنا!”
هنا كانت استراتيجية فيلون مبنية على مرحلتين أساسيتين: الأولى تأمين اليهود في الإسكندرية والتأكد من بقائهم على أرضهم، حتى وإن حُرقت ووجدوا أنفسهم على شواطئ المدينة. أما المرحلة الثانية فكانت مواجهة فلاخوس؛ كون الطائفية عرضا لمرض أكبر وهو غياب دولة القانون. هنا تحرك فيلون مع وفد من كبار مثقفي ورجال أعمال يهود الإسكندرية، وبدون رجل دين واحد، إلى القيصر كاليجولا.
لم يكن كاليجولا شخصًا سويًا نفسيًا، لكنه كان يعلم أن “عقل الإمبراطورية (الإسكندرية)” كما وصفها فيلون يجب ألا يحدث فيها ذلك، فتخلص من فلاخوس وأرسل كتيبةً عنيفة جدًا نجحت في إخماد الوضع، وإجبار اليونانيين على العدول عن مهاجمة اليهود.
عاد فيلون ووجد اليهود مجتمعين على شواطئ الإسكندرية حيث ما بقي لهم منزل أو مكان إلا و حُرق. شكر فيلون الله أنهم على الأقل ما زالوا أحياء، لكنه في قرارة قلبه لم يكن سعيدًا!
كان يعلم أن تحرك كاليجولا لم يكن عن قناعةٍ بأي مبادئ قانونية، وإنما كان محاولة لاستعادة الأمن واستمرار الحركة التجارية والاقتصادية. كان يعلم فيلون تمامًا – وللأسف وحده – أن الإسكندرية ترقد على بركان قابل للانفجار في أي وقت.
على مقربةٍ من بحيرة مريوط كانت هناك مجموعة من الفلاسفة اليهود رجالًا ونساءً يعيشون في ما يُشبه المدينة الفاضلة. تجمع صغير يبتعدون فيه عن كل الانتماءات التي تمزق البشر. عاش وسطهم فيلون ما يشبه فترة النقاهة، وكتب مجموعة مجلدات في أمور مختلفة كلها بيونانيةٍ بليغةٍ جدًا، أراد بها أن يخاطب عقول اليونانيين، فليس كل اليهود مجموعة من المعممين الذين يؤمنون بأن العبرية لغة السماء، ويستكنفون التعامل مع الأديان والأفكار غير العبرية.
قدم فيلون في كتاباته الفلسفة الكامنة في الفكر اليهودي بعيدًا عن الدوجمائية، وطرحها في خطاب قادر على التواصل بشكل عميق مع الفكر اليوناني، حتى أن اليهود أنفسهم رفضوا تلك الكتابات ولم يحتفظوا بها؛ لأنها أكثر استنارةً من أن يحتملها رجل دين يعتاش على رسم الخطوط والفواصل بين مجموعته الدينية والآخر.
كان هدف مجموعة مجلداته الوصول إلى نقطة أن اليهودي ينتمي للأسرة الإنسانية بكل مآزقها وتحدياتها الفكرية، وأن علاقته بأورشليم التي هي أم كل يهودي بحسب فكر اليهودي الفلسطيني، لا تنفي أن أباه الذي ينتمي له ويحمل اسمه هو الإسكندرية.
الهوية المصرية.. حينما تكون جنسيتك حقيقة بيولوجية | مينا منير | دقائق.نت
حين جاءت الساعة التي توقعها فيلون وانفجر الوضع مجددًا، وهذه المرة على يد كاليجولا نفسه في أنطاكية وليس الإسكندرية، لعبت كتابات فيلون دورًا كبيرًا في تهدئة الوضع.
قاد فيلون وفدًا يهوديًا كبيرًا إلى روما، وعرض أطروحته عن دولة القانون.
هذه المرة، ولحسن حظ الجميع (!) تم التخلص من الإمبراطور المجنون، وأتى أكثر أباطرة القرن الأول عقلانيةً واحترامًا للقانون، كلاوديوس.
كان سؤال فيلون له في خطابٍ: هل سنحترم قوانين المواطنة التي وضعها أغسطس أم ستترك الأقلية تحت رحمة مزاجية الحاكم وحلوله التي لا تستهدف أبعد من مصالحه الاقتصادية؟
هنا استجاب كلاوديوس وقرر أن يضع نهاية لتلك “الطائفية” بسن قانون واضح وضعه في خطابٍ أرسله لوالي الإسكندرية يسن واجبات وحقوق كل سكندري، يهوديًا كان أم يونانيًا، فلا يجوز كسر قوانين الدولة التي سُنت منذ أغسطس الكبير:
على اليونانيين احترام حقوق وواجبات اليهود في المدينة وإلا سيتدخل هو شخصيًا لحماية القانون، وعلى اليهود أيضًا احترام تلك القوانين وألا يسمحوا بمزيد من الهجرة من فلسطين (في إشارة غير ملتبسة لرجال الدين الطائفيين) وأن يعيشوا كسكندريين إن أرادوا
انتهى شتاء العام 41، ومعه انتهت الفتنة الطائفية ليبدأ عهد جديد لم ينعم به مهندسه فيلون الذي مات بعدها بوقت قريب.
فطالما تمسك الجميع بدولة القانون، استقرت “مدينة الله العظمى”، فظل الوضع كذلك لسبعين سنة.
باكس أميريكانا: كيف استلهم قادة كامب ديفيد السلام الروماني؟ وماذا ينقص التجربة؟ | مينا منير
عاد ثيوناس إلى ابنه ليقص له ما رآه، وكم كان محظوظًا أنه لم يكن عالقًا معه، فهل اقتنع ثيون بحجج أبيه؟
اللطيف في الأمر أن خطاب الطفل ثيون لأبيه، وخطاب الإمبراطور كلاوديوس كلاهما اكتُشفا معًا وفي نفس المكان: في خربة (خرابة) في منطقة البهنسة.
بين ميدان رابعة وأورشليم.. المعركة الأخيرة وما بعدها | مينا منير