باحث بجامعة لوزان - سويسرا
في خطاب التنحي الماكر الذي صاغه محمد حسنين هيكل بطريقة تصور جمال عبد الناصر كضحية مستعدة لتحمل المسؤولية من باب “الجدعنة”، لم يقرر “ناصر” فقط التخلي عن الحكم، لكنه اختار زكريا محيي الدين من بين كل رجال السلطة ليحل مكانه.
الخيار كان صادمًا للجميع، حتى لمحيي الدين نفسه، وقد جاء في وقتٍ اتُفق فيه بالفعل على بدائل – شمس بدران ومن يعينهم – تحافظ على توازن مراكز القوى بعد الرحيل المنتظر لعامر وناصر.
بعد ذكره اسم زكريا محيي الدين في الخطاب، يذكر ناصر سريعًا الآتي:
القول الفصل في علاقة الإخوان بحركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وحريق القاهرة | س/ج في دقائق
من صياغة الخطاب تظهر ثلاثة ألغاز:
أولًا: لماذا غير الخطاب وحده دون علم أحد ليذكر اسم زكريا محيي الدين دون اتفاق؟
ثانيًا: لماذا احتاج ناصر أن يؤكد أن اختيار زكريا محيي الدين ليس تصفيةً للثورة، وكأن زكريا محيي الدين (الذي وضع خطة الانتشار والسيطرة ليلة 23 يوليو) ليس من صانعيها، وأن اختياره قد يحمل نهايتها؟
ثالثًا: ما علاقة كل ذلك أصلًا بالهزيمة العسكرية؟
يقول هيكل (الانفجار، ص840 – 845) حول لقائه بناصر لصياغة الخطاب أن الأخير برر المفاجأة بقوة وذكاء زكريا محيي الدين. أما ما نسيه هيكل – أو تناساه – أن جمال عبد الناصر كان ينظر لرؤية زكريا محيي الدين كبديل مقبول في الغرب.
كان معروفًا عن زكريا محيي الدين النجاح والحزم؛ فهو من أنشأ جهاز المخابرات العامة المصرية (وأشرف على تجنيد وإرسال رفعت الجمال) ثم تولى ملف الإخوان بعد حادث المنشية وقضى عليهم (حتى تصدر من يكرهونهم). وكلما سقطت مؤسسة، وكل جمال عبد الناصر زكريا محيي الدين بإنقاذها، حتى تولى رئاسة الوزارة سنة 1965 بعد انهيار الاقتصاد وشبه انعدام العملة الصعبة.
ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق
رؤية الغرب تظهر في تقرير سري للمخابرات الأمريكية بعد تولي زكريا محيي الدين المنصب بأربعة أشهر.. فقد كان “رجلًا من قماشة مختلفة بسجل ناجح ورؤية ثاقبة”.
وضع محيي الدين أمام جمال عبد الناصر حينها تقريرًا أمينًا (نشرته المخابرات في الوثيقة المذكورة) عن انهيار قطاعات الاقتصاد بسبب التأميم، والمشروعات القومية غير الاقتصادية، والدعم غير المبرر لشركات القطاع العام الخاسرة، والانفجار السكاني، والتجريف الديمغرافي للمدن الكبرى (ما أسماه التضخم الريفي – Peasantry’s Overpopulation)، والعمالة الفائضة عن الحاجة وغير المنتجة فعليًا، والتي استهدفها باقتراح وصفه تقرير المخابرات بأنه “ثوري”: إجبار العامل على إنهاء ما أوكل له من مهام خلال ساعات العمل، أو البقاء في المكتب حتى إنهائه أو فصله.
يضيف التقرير أن زكريا محيي الدين كان يرى أن نجاح سياسات تحديد النسل أو رفع كفاءة الفرد مرتبط بمواجهة منظومة التفكير الريفية التي ترى مثلًا أن كثرة الإنجاب لها فوائد اقتصادية. هذا بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات عديدة للفصل بين السلطات، وكبح البيروقراطية، وخلق بدائل واقعية للعيوب المذكورة سابقًا.
خبراء الاقتصاد الأمريكيون الذين استشارتهم المخابرات وصفوا أفكار زكريا محيي الدين بالواقعية جدًا، واعتبروا أن قبول جمال عبد الناصر لها يعني انفتاح مصر على الاستثمار الأجنبي الذي سيدخل من باب موافقة البنك الدولي على تمويل الدولة لتحقيق خططه. هذا ما اعتبره التقرير عبورًا من وهم “الاشتراكية العربية Arab Socialism” إلى الواقع “Economic Realism”.
كان زكريا محيي الدين إذن “نداء الضمير الذي كان جمال عبد الناصر يدرك صحته جيدًا، لكنه لم يرد أن يستجيب له وسط صراخ الاشتراكيين، وعلى رأسهم علي صبري الذي كان سببًا في الانهيار الاقتصادي.
قبل الهزيمة بشهور، رفض عبد الناصر تمامًا تنفيذ خطة زكريا محيي الدين خشية من انهيار إرث الاشتراكية. لكن جلسة مصالحة مع النفس على ما يبدو في مساء الثامن من يونيو 1967، أفضت إلى اختيار الرجل نفسه في ضوء ما سبق.
هنا تظهر الإجابة على الأسئلة الثلاثة السابقة. اختيار زكريا محيي الدين حمل إقرارًا من عبد الناصر بمسئولية السياسات التي أدت لانهيار الدولة وما أفضت إليه من هزيمة. تلك السياسات التي لم يؤمن بها محيي الدين، فكان البديل المنطقي لها.
كان إقرارًا بهزيمة الاشتراكية والثورة، حتى وإن كان بديلهما من مجلس قيادتها نفسه، لكنه كان بديلًا لا لشخص جمال عبد الناصر فقط، بل كل ما كان يمثله هو ومجموعته.
تنحي زكريا محيي الدين الكامل عن السياسة بعد واقعة “موت” عبد الحكيم عامر لم تترك لناصر بديلًا إلا محمد أنور السادات الذي يبدو أنه كان ينتمي لمدرسة محيي الدين الواقعية، إلا أنه كان أوفر حظًا لأنه لم يكن “كارتًا محروقًا” فلم تكن توجهاته معروفة، وبالتالي فالضربة التي وجهها لحملة الفكر الاشتراكي في قرارات مايو 1971 المفاجئة، كانت إعلانًا بالتخلص من إرث الوهم، والاستعداد للواقعية السياسية التي أفضت إلى انتصار عسكري محدد المعالم، يأتي كجزء من عملية إصلاح سياسي واقتصادي شامل، استمر حتى اغتياله.
من هنا، فإن عبور أكتوبر حمل بين مكاسبه شرعنة لما حاول جمال عبد الناصر أن يفعله في لحظة صادقة مع النفس باختيار مدرسة زكريا محيي الدين.