في الجزء الأول تحدثنا عن أوراق قوة إثيوبيا في نزاع سد النهضة. في هذا الجزء، سنستعرض لغة التهديد المصرية في التعامل مع الأزمة، وحلول الرؤساء السابقين.
في 31 مايو 1978 أجاب الرئيس المصري محمد السادات في مؤتمر صحفي عن سؤال بخصوص إمكانية بناء إثيوبيا لسد على بحيرة تانا بالتالي:
لاحقًا، أعلن السادات عن خطة لتحويل جزء من مياه النيل إلى سيناء لزراعتها بعد استردادها من إسرائيل (وهو نفس المشروع الذي تم الترويج له إقليميًا بزعم أن هدفه بيع المياه لإسرائيل، والذي تحول بعد سنوات لمشروع ترعة السلام).
أحد أهداف المشروع – بخلاف التنمية – كانت التأكيد على الحصة المصرية. احتجت إثيوبيا لدي منظمة الوحدة الأفريقية فرد السادات في حديثه مع هيرالد تريبيون في 3 يونيو 1980:
بعد يومين وفي لقاء مع أفراد القوات المسلحة بمناسبة ذكري حرب 1967 قال:
وأشار في حديثه لكون المجتمع الدولي سيتفهم ذلك، ولم يمر شهر حتي كرر تهديده لإثيوبيا مرة أخرى في 17 يوليو.
في أوائل يوليو 1995 وعقب محاولة اغتيال مبارك، في وفي خضم أزمة سياسية بين مصر والسودان سببها تورط السودان في محاولة اغتياله في أديس أبابا قبلها بأسبوع، ( والتي اعترف الترابي بمسؤولية السودان عنها لاحقًا) هدد السودان بإلغاء اتفاقية عام 1959 مع مصر بشأن حصص المياه. وكان رد مبارك باختصار بأن هذا لعب بالنار وعواقبه ستكون مميتة. وصرح وزير الخارجية آنذاك عمرو موسى بأنه “على السودان ألا يلعب بالنار ولا بالماء”.
وفي 2012، تشر موقع ويكيليكس ما زعم أنها رسالة إلكترونية مسربة تحتوي على تصريحات سفير مصري عام 2010 (في خضم أزمة أخرى هي موضوع أزمة الاتفاقية الإطارية لحوض النيل) مضمونه أن مصر ستقصف أي سد تقرر إثيوبيا بناءه وأن السودان مستعد لدعم مصر في ذلك.
وبغض النظر عن مصداقية ويكيليكس فإن المهم في كل هذه الأمثلة أن الموقف المصري كان يتضمن دائمًا الردع بالتهديد حتي 2011، قبل أن يتغير بعدها. و يلزمنا معرفة لماذا تغير، قبل معرفة الاستراتيجية المصرية، خصوصًا أن إمكانيات القدرة العسكرية المصرية بالنسبة لإثيوبيا لم تتغير.
من حلايب إلى سد النهضة: الغموض يهزم الوضوح في علاقة مصر والسودان
لأن القانون الدولي لا يمكنه حسم القضية بشكل قاطع. بالتالي، فلا بديل عن الوسائل السياسية والعسكرية. هذه الوسائل تعتمد على عوامل مختلفة، لهذا اختلفت طريقة مصر في التعامل مع القضية عبر الزمن كالتالي:
اعتمد جمال عبد الناصر منذ استقلال السودان عام 1956، وفقدان مصر الاتصال الحدودي المباشر بكل دول الحوض عدا السودان، على تأثيره في أفريقيا، الناتج عن ثروة مصر وتقدمها النسبي بالنسبة للقارة، ومساندة مصر لحركات التحرر، وقيادتها لمقاطعة نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وفتحها الباب لدراسة الطلبة الأفارقة الفقراء في مصر، كوسيلة ضغط سياسية.
لكن عقب هزيمة 1967، تراجع التأثير المصري كنتيجة لفقدان مصر الكثير من هذه المميزات، قبل أن تجمد تحالفات الحرب الباردة الوضع لفترة من الزمن.
تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير
ساهم تصاعد أسعار البترول بعد حرب 1973 في تحدي الدور القيادي المصري في المنطقة العربية من دول مختلفة منتجة للبترول، كانت مصر في صدام حاد مع بعضها، وبالأخص ليبيا والعراق والجزائر. وانتهى الامر بالمقاطعة العربية لمصر.
أدرك السادات منذ وقت مبكر أنه يحتاج للتركيز على أفريقيا كمنطقة تأثير أهم لمصر، ويحتاج لدعم القوة الأعظم (الولايات المتحدة)، ويحتاج لتحالف وثيق مع السودان.
في هذا الإطار، قفز السادات من المركب السوفيتي الغارق في اللحظة المناسبة، ولم يكن تهديده لإثيوبيا أواخر السبعينيات ببعيد عن كونه يضمن وجود الولايات المتحدة بجانبه ضد نظام منجستوهيلا مريام الماركسي الموالي للسوفييت ،والذي أغلق سفارة الولايات المتحدة عام 1977، واعتمد على دعم سوفيتي كوبي ومساندة الكتلة الشرقية ضد الصومال في حرب أوجادين، التي انتهت قبل شهرين من تلك التصريحات التي افتتحنا بها المقال (مارس 1978 )، ويضمن أن حكومة جعفر نميري في السودان ستسانده (علاقة السادات ومبارك بنميري كانت وثيقة للغاية وأحد أسبابها دعم السادات كرئيس، وما يتردد عن دعم مبارك كضابط لنميري في أحداث جزيرة أبا أثناء محاولة الانقلاب الشيوعي عليه عام 1971 ( انقلاب هاشم العطا وبابكر النور).
بشكل عام فمن الملحوظ أن السودان والصومال هما الدولتان العربيتان الوحيدتان مع عمان اللتان لم تقطعا العلاقات مع مصر أثناء المقاطعة الناتجة عن مقررات قمة بغداد.
وليس هذا الواقع ببعيد عن حقيقة احتفاظ مصر بعلاقة خاصة بالبلدين لمواجهة إثيوبيا عند الضرورة.
بالإضافة لكل هذا، استعاض السادات عن العلاقات العربية المقطوعة بعد عام 1978 بعلاقات قوية مع أفريقيا. فالسادات استكمل سياسات سلفه عندما أرسل قوات إلى الكونغو عام 1977 لدعم الحكومة في السيطرة على الأوضاع هناك، كما استضاف القمة العربية الأفريقية الأولى عام 1977 ( من الملاحظ هنا أن القمة الثانية جاءت عام 2010 في سرت بليبيا بعد ثلث قرن من القمة الأولى) كما أنشأ للعلاقات مع أفريقيا خصيصا الصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا عام 1980.
40 عامًا من معاهدة السلام.. ماذا واجه السادات؟ وماذا جنت لمصر؟ | س/ج في دقائق
منذ بداية عهده، اعتمدت مبارك على نفس استراتيجيات سلفه، مع استمرار التركيز على أفريقيا بسبب المقاطعة العربية. لكن عندما ساعدته عودة العلاقات مع الدول العربية على تقوية مركز مصر الإقليمي مجددًا، والعودة لمشاركة في قيادة جماعية (ثلاثية غالبًا) للتوجهات العربية منذ إعلان دمشق، وبعد محاولة اغتياله في أديس أبابا عام 1995، تراجع اهتمام مبارك بأفريقيا معتمدًا أكثر على دور مصر العربي وأهميتها للولايات المتحدة في صنع السلام في الشرق الأوسط ، وساهم هذا في تجميد الوضع لأطول فترة ممكنة إلى أن بدا في نهاية عهده أن هذه الاستراتيجية لن تتمكن من الاستمرار طويلًا.
في المقال الثالث نتحدث عن أسباب تغير الموقف تجاه السد من الجانبين.
مصر مبارك | الاستقرار من أجل التنمية.. الذي أحياني قتلني