باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
منذ رشحه الأزهر لمناظرة تلفزيونية مع الباحث إسلام بحيري في 2014، اعتاد الداعية الأزهري عبد الله رشدي الإطلال على متابعيه بين فترة وأخرى بتدوينات مثيرة للجدل.
ومن حينها، بات واحدًا من أهم المدافعين عن الخط الأزهري التقليدي عبر القنوات الفضائية وحسابات السوشال ميديا، في مواجهة من يراهم علمانيين وملاحدة وكارهين للإسلام، رافعًا شعار “الأزهر قادم”.
ضمن هذا الإطار، أطل عبد الله رشدي بتدوينة “لا يقبل الله العمل الصالح مع المعتقد الفاسد”.
فهم المتابعون فورًا أنه يقصد طبيب القلب الدكتور مجدي يعقوب لتزامنها مع الحفاوة الرسمية والإسلامية والشعبية بالطبيب المصري العالمي وجهوده في خدمة الإنسانية (نال تكريما رفيعا في الإمارات)، لكنه لم يذكر الاسم صراحة وفق طريقته الدائمة في مواكبة الترند، خصوصًا فيما يتعلق بالشأن المسيحي وبعض قضايا الخطاب الديني التقليدي (الحجاب – الختان – الطلاق، إلخ).
التدوينة أثارت غصب النخب والإعلام الذين اعتبروها ناشرة للفتنة والكراهية مسيئة لشخص الطبيب مجدي يعقوب خصوصًا والمسيحيين عمومًا، ليرد عبد الله رشدي بتدوينة أخرى توضح السند الشرعي لفتواه، مذيلة بشعاره الدائم: “الأزهر قادم”.
جرائم السلطة الاجتماعية في حارتنا .. الحلقة الغائبة بين الحكم والقانون
مصطلح “جوييم” في التراث الديني اليهودي يعني “الأغيار” أي غير اليهود. لو قيل لك كمسلم إنك من الأغيار ربما لن تشعر بأي مشكلة؛ لأنك لست يهوديًا بالفعل. لكن لو اطلعت على التراث الديني اليهودي الموازي بما يكفي، لعرفت أنها تحمل دلالة سلبية فيها الكثير من الاحتقار والازدراء.
نفس المشكلة يشعر بها المسيحي العربي عند وصفه بالكافر بخلاف المسيحي غير العربي. المسيحي العربي يدرك جيدًا أن الكلمة لا تعني مجرد أنك لا تعتقد معتقدي، وإنما تحمل شحنًا تاريخيًا بكثير من معاني الازدراء والكراهية والنظرة السلبية في الخلفية الثقافية لقائليه.
هذا بالضبط ما يريده عبد الله رشدي من خلال كلامه عن تكفير المسيحيين. يصفهم بالكفار، ثم يحاول تبسيط المسألة واعتبارها مجرد وصف لغوي لا يضر المسيحيين، وأنه يمكن التعايش معهم مع وصفهم بالكفار، وهو تصور ساذج بنظري، يحمل نفس التعليل الذي يلجأ إليه الإسلاميون في قضايا المواطنة.
أساس المشكلة هنا هو التمسك في الألفاظ التراثية حتى لو تجاوزها الزمن والإجماع. وشبيه ذلك إلحاح السلفيين على وصف المسيحيين بالنصارى.
صحيح أن المؤسسة الدينية ترفض استخدام هذه الأوصاف في خطابها الرسمي، لكنها مطالبة بمنهجية واضحة في هذه المسألة.
تصريح عبد الله رشدي بخصوص مجدي يعقوب يثير أزمة جوهرية قديمة في عمق المنظومة الإسلامية التقليدية وهي مسألة العدل الإلهي.
المعتزلة كانوا أول من أثار المسألة حين استشكلوا كثيرًا من النصوص الروائية لمنافاتها لفكرة العدل الإلهي. ولأجلها أنكروا القدر والجبر، وقالوا بمسؤولية الإنسان عن أفعاله، وأنكروا أحاديث الشفاعة وعذاب القبر والخروج من النار وفعل الأصلح، واعتبروا العدل من أصول الدين الخمسة عندهم، وسموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد في مقابل أهل السنة والجماعة.
ما طرحه عبد الله رشدي بخصوص مجدي يعقوب يثير نفس الإشكالية القديمة، لكن بصورة مختلفة لم يتطرق لها المعتزلة. يتعلق بإهدار العمل الصالح لأجل المعتقد، بسؤال صيغته: “كيف يعذب الله شخصًا فعل الخير وخدم الإنسانية لمجرد أنه لا يعتنق معتقد الإسلام وإن كان اعتقاده حياديًا غير معادٍ”؟ وهو ما يثير إشكالية في فكرة العدل الإلهي الذي لا يعبأ بالخير والعمل الصالح لمجرد تصور وجوده بصورة مختلفة عن التي يريدها لذاته.
لم يتطرق المعتزلة لهذه الإشكالية قديمًا رغم التزامهم بفكرة العدل الإلهي. قالوا بإهدار العمل لأجل الاعتقاد ربما بدافع الحروب القائمة على أسس دينية مع المخالفين، وحينها كان المعتقد جزءًا من كيان الدولة. وهي تخوفات تزول مع الدولة الحديثة حيث قيمة المواطنة.
تسلح عبد الله رشدي كعادته بالنص الديني المباشر لإحراج المعترضين، وهو ما يضع المؤسسة الدينية أمام مسؤوليتها في تجديد الخطاب الديني عمليًا على مستوى التفاصيل دون العموميات، من خلال إعادة النظر في آلية التأويل ومركزية النص الديني.
ابن تيمية في رواية أخرى| 7 اتهامات ظُلم فيها.. أهمها التكفير| هاني عمارة
يعتمد عبد الله رشدي كثيرًا في خطابه على إطلاق الكلام بالعموم ليفهم المتابعون أي شخص أو حالة يقصد دون أن يسميه، على طريقة “إياك أعني واسمعي يا جارة”.
غالبًا ما يلجأ لهذه الطريقة لتجنب المساءلة القانونية. وهو ما فعله في حالة مجدي يعقوب. فعلها كذلك في حالات أخرى تخص المسيحيين مثل تدوينته بآية قرآنية تخالف المعتقد المسيحي في يوم عيد للمسيحيين، أو كلامه عن الحجاب بالمطلق وقت تصريحات الداعية معز مسعود بعد زواجه من الممثلة شيري عادل.
هذه الطريقة إحدى الطرق التحريضية التي أجادها الإسلاميون كثيرًا من خلال التكفير بالعموم دون الخصوص. وبسببها كان يصعب إدانة المحرضين على العنف والكراهية في كثير من الحوادث، أشهرها اغتيال فرج فودة وتبرئة مفتي الجهاد عمر عبد الرحمن.
عبد الله رشدي محسوب على تيار الأزهر التقليدي، ويقول بولائه للأزهر وشيخه كمؤسسة رسمية. لكنه يقف في مسافة وسط بين الدولة والإسلاميين، وهو ما يفسر امتلاكه لجمهور بين الإسلاميين رغم أنه محسوب على الدولة.
وهو ما يمكن رصده من خلاله خطابه المؤيد للدولة العثمانية ووصف قادتها بسادته، وترديد الكليشيهات الإسلامية الرائجة حول السلطان عبد الحميد الثاني فيما يتعلق بدفاعه عن فلسطين وتآمر اليهود عليه، وهو ما فندته الباحثة الأردنية فدوى نصيرات في كتابها “دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين“.
كما أنه يستخدم مفردات مميزة في خطاب الإسلاميين، لا يستخدمها خطاب الأزهر الرسمي، مثل وصف خصومه بالعلمانيين وكارهي الدين، وكلامه كثيرًا عن مخططات “تحطيم الشريعة”.
خلاف شيخ الأزهر والخشت: مئتا عام من المساومة مع الدولة المصرية| خالد البري
قبل عشرة أعوام فقط، لم يكن عبد الله رشدي ليحدث هذا الصخب بتغريدة أو تغريدات مماثلة. ربما كان سيُنظر إليه كأزهري وسطي معتدل في مقابل الخطاب السلفي.
لكن تحولًا ما حدث هذه المرة. تحول يمكن رصده في تعليقات النخب وتغطية الإعلام من صحف وقنوات – بعضها يمكن تصنيفه في فئة الإعلام المحافظ – وحتى القيادات الدينية الأزهرية. أضف إلى ذلك حالة الصمت الخجول من المحسوبين على تيار الإسلام السياسي.
حتى على مستوى الرأي العام، يمكن رصده التحول كذلك من معارضات بنسبة لا بأس بها في التعليقات على صفحته نفسها، والتي لم تظهر قبل ذلك.
هذا التحول سيستشعره بدقة من يتابع الخطاب الديني الرسمي والشعبي في مصر جيدًا منذ بداية ما يسمى بعصر الصحوة الإسلامية. تحول يؤشر بوضوح لمرحلة ما بعد الإسلاموية وبدء انهيار مشروع الإسلام السياسي وما حمله من كشف أزمات الخطاب الديني التقليدي.