ناقد فني
في الجزء السابق من المقال تناولنا بعض من الادعاءات حول سينما هوليوود الكلاسيكية، وحاولنا تصحيح بعض من الصورة الذهنية المغلوطة عنها، منها جودة الصورة السيئة بسبب عوامل التعرية، ونمطية القصص واتباعها أساليب الحكي الخطية المباشرة.
عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد: 5 مفاهيم مغلوطة (جزء 1) | أمجد جمال | دقائق.نت
في هذا الجزء من المقال نتناول ادعاء جديد:
هذا المفهوم المغلوط تتبناه بشكل أكبر دوائر النخب السينمائية، ومعظمهم ليس لديه عقدة العودة للكلاسيكيات، ولكن بشرط ألا تكون كلاسيكيات هوليوود! فيجدون القيمة الأكبر بمشاهدة الأفلام الفرنسية أو الروسية أو السويدية أو اليابانية القديمة، بزعم أنها الأفلام الفنية والوحيدة التي تنتمي لسينما المؤلف (المخرج صاحب الأسلوب والبصمة الفنية).
والواقع أن كثير من رموز الإخراج في هوليوود كان لهم أسلوبهم وبصمتهم بالفعل، فقط بعضهم أوضح من الآخر، سهل تحديد الأسلوبية في أفلام “دوجلاس سيرك”، و”ألفريد هيتشكوك”، و”تشارلي تشابلن” مثلا! وهذا لا يعني غياب الأسلوبية عن رموز أخرى قدمت أفلام أكثر تنوع في جونراتها وحالاتها ما جعل من الصعب تحديد الأسلوبية، لكنهم دائما ما تركوا علامة دالة على هويتهم في تلك الأعمال.
أفلام رعاة البقر التي صنعها المخرج “جون فورد” تتميز عن تلك التي صنعها “هوارد هوكس”، والأخيرة تتميز عن التي صنعها “أنطوني مان” وفيما بعد “سيرجيو ليون” و”كلينت إيستوود”، وبالرغم من أن جميعها في النهاية ليست إلا أفلام نوع، لكنها مع هؤلاء الأسماء لم تخرج في صورة استهلاكية متطابقة كمنتجات مصانع الإنتاج الضخم (mass production)، فكانت تحكمهم نزعة فنية متناسبة مع شخصياتهم.
لـ” جون فورد” مقولة مهمة في سياق مختلف، لكنها بشكل أو بآخر تعبر عن ميوله في قضية القصة ضد الأسلوب:
تلك النزعة وجدت في أعمال مخرجين آخرين غير فورد. نجد المخرج “كوينتن تارانتينو” والمعروف كأحد أبرز أسماء سينما المؤلف في عصرنا. يتحدث بولع عن رمز آخر من جيل هوليوود الذهبي هو “هوارد هوكس”. فيقول:
ورغم الإقرار بوجود مدارس فنية وشخصيات مختلفة لمخرجي هوليوود، يظل هناك طابع مشترك يجمع كل تلك المدارس والأفلام. سبق أن قال “فرانسوا تروفو”: في النهاية، ما جعلنا نحب أفلام هوليوود أنها تتشابه وبعضها”.
هذا التشابه أو الطابع المشترك أعقد في تحديده مقارنة بمدارس أخرى كالتعبيرية الألمانية والواقعية الإيطالية والوجودية السويدية مثلا، والسابقة كلها مدارس أسلوبها يتضح أكثر في الشكل وفي شخصية المخرج.
هنا نعود لأطرف ما قاله جون فورد حول نظرية سينما المؤلف، والرد على اتهام مخرجي هوليوود دائما بأنهم مجرد ترس في ماكينة الاستوديو:
“مخطيء من يشبه المخرج بالمؤلف. نعم المخرج هو صانع الفيلم، لكنه صانع أقرب للمعماري منه إلى المؤلف. والفارق أن المعماري يستطيع تحديد خططه ولكن بما يناسب ظروف المشروع.”
رمز آخر لمخرجي حقبة هوليوود الكلاسيكية، وهو “بيلي وايلدر، يؤكد على ما قاله فورد ولكن بطريقة وايلدر الساخرة المعروفة، وهو يتناول الفارق بين هوليوود وسينما الفن الأوروبية، يقول:
استخدام تشبيه “جبن الروكفورت” كبديل لشريط الخام (السليوليد) يوحي بأن التهكم هنا يستهدف مهرجان كان والسينما الفرانكفونية تحديدا.
من دفاتر صلاح أبو سيف.. الواقعية والرقابة والجنس والنقاد | أمجد جمال
ما نخرج به من حديث فورد ووايلدر أن المخرج في هوليوود يوفق بين نزعته الفنية والحسابات الأخرى. مثل النفقات الإنتاجية، أو تماسك البناء الدرامي، أو متطلبات السوق. أو كل ما سبق. كما أنه بعيد عن الاستعراضية.
وهذا الطابع طابع وظيفي تحكمه الوحدة العضوية بلا زخرفة. تلك العضوية منظمة وفق مراحل حددها “ديفيد بوردويل” في كتابه “سينما هوليوود الكلاسيكية”. بمراحل العمومية الثلاث (الأدوات، الأنظمة، والعلاقات بين الأنظمة):-
1- الأدوات:
وهي العناصر الفنية المتكررة في أفلام هوليوود. كالإضاءة الثلاثية. والمونتاج التتابعي. وتعزيز دور الموسيقى التصويرية. والتأطير المركزي لعناصر الكادر (الشخصيات تتوسط اللقطة)، والقطعات التمهيدية بين المشاهد (dissolves). وهي عناصر شائعة في السينما الكلاسيكية. نظن عن خطأ أنها الأسلوب.
2-الأنظمة:
الأدوات السابقة تكون ذات معنى فقط بعد تحديد وظائفها. فالقطعات التمهيدية بين المشاهد يمكن أن تعبر عن مرور الوقت. وكذلك القطعات اللحظية. لكن ما هو معيار الاختيار لأي منهما؟.. تتميز سينما هوليوود الكلاسيكية بأن الأسلوب فيها ليس حاصل جمع الأدوات المستخدمة، بل كيف تخدم كل أداة منهم الأنظمة السينمائية الثلاثة:
ويمكن لكل أداة سينمائية أن تخدم كل نظام على حدة، أو جميعهم في الوقت نفسه.
3- العلاقات بين الأنظمة:
الأسلوب النهائي للعمل الكلاسيكي يكون حاصل العلاقة بين الأنظمة: هل يكمل كل منهم الآخر؟ هل يعملون باستقلالية عن بعضهم البعض؟ وما إمكانية أن تدعم أو تتناقض مبادئ أي نظام منهم مع الآخر؟
التأطير المتعدد أو الإطار بداخل الإطار (multi-framing) كما هو موضح في هاتين اللقطتين من فيلم “الباحثون” 1956 للمخرج جون فورد. وهي مجرد أداة لا يمكن اعتبارها الأسلوب أو تناولها بمعزل عن باقي أنظمة الفيلم، وخاصة الحكي والزمن، فالفيلم يبدأ وينتهي ويتخلله نفس الأداة، وفي ذلك نوع من الهارموني، كما أنها أداة تتوافق مع موضوع الفيلم ورحلة أبطاله في البحث عن فتاة العائلة المفقودة، وبشكل أعمق البحث عن معنى الانتماء والوطن في ظل التهديدات والبيئة الموحشة المحيطة، وهنا فاستخدام أداة الإطار داخل الإطار تجعل تكوين الكادر يشبه النظرة إلى العالم عبر المنظار المكبر (أداة البحث).
تأثير مانديلا في السينما.. ذاكرة مزيفة أم إبداعية؟ | أمجد جمال
هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت
كذلك نظام القطع الوثاب (jump cut) في مشاهد من أفلام “لورانس العرب” 1962 لديفد لين، (لورانس يطفيء عقب الكبريت فننتقل للقطة واسعة لصحراء العرب المليئة بالصراعات في لحظة الشفق أو الغروب). أو “أوديسة الفضاء” 1968 لكوبريك” (حيث تلقي القرود بالعظام فنتحول إلى لقطة لسفينة فضاء)، وكلها أدوات أسلوبية موظفة لخدمة أهداف نظامية مباشرة للأفلام، بعكس مثلا القطع الوثاب في فيلم الموجة الفرنسية الجديدة “لآخر نفس” 1960 لغودار، وهو يستخدم نفس الأداة، لكن بدون وظيفة أو علاقة نظامية مع الفيلم.
وعلى مستوى الأنواع الفيلمية، استعارت وتأثرت هوليوود بالكثير من الأدوات الأسلوبية من خارجها، على رأسها التعبيرية الألمانية، ووظفت هوليوود أساليب التصوير والإضاءة القاتمة من تلك المدرسة داخل نوعية الفيلم-نوار الأمريكية، لكن تلك الأدوات لم تزخرف الفيلم-نوار بل جاءت متناغمة مع الجوهر الموضوعي لأفلام النوار، وهي أفلام الجريمة والتشويق التي ظهرت في النصف الثاني من الأربعينيات، واعتبرها المنظرون نتيجة للحالة النفسية التي تبعت الحرب العالمية الثانية، حيث اتسمت بمشاعر القلق واليأس والسينيكية وعدم اتضاح الرؤية لمستقبل مشرق، وكلها مشاعر اختبرها المجتمع في ذلك الوقت.
ليس صحيحا أن هوليوود الكلاسيكية همّشت دور الصورة وجمالياتها، وأكبر دليل على ذلك هو الابتكارات التقنية المتواصلة في مجال تقنيات الصورة ومحاولة إبراز التفاصيل على أكمل وجه، على رأس تلك الابتكارات الشريط الواسع (70 ملي متر) في مقابل نظام شريط ال35 ملي التقليدي.
الشريط الواسع كان ابتكار أمريكي صرف نبع من داخل الأستوديوهات ويرجع لأواخر العشرينات بمحاولة لشركة فوكس لم تعمم بسبب ارتفاع التكلفة، لكن اختراع التلفزيون ودخوله كمنافس للسينما في الخمسينيات، أجبر الأستوديوهات على الرد من خلال تطوير ابتكار الشريط الواسع ليصير أقل تكلفة ويقدم تجربة مشاهدة غير مسبوقة من حيث حجم اللقطة، والوضوح الفائق لعناصرها، وارتفاع جودة الألوان، ومن أشهر الأفلام التي استخدمته “بن هور” 1959 للمخرج “ويليام وايلر” و”صوت الموسيقى” (1965) للمخرج “روبرت وايز”.
هل كانت مصر فعلًا ثاني دول العالم معرفة بالسينما؟ | أمجد جمال
وفي عصرنا نجد رموز الإخراج العالميين بكامل وعيهم لهذه النقطة الآن، بل وشكلوا تيارا جديدا ينادي بالعودة إلى القديم والتصوير بنظام الشريط الواسع لأنه يمثل “السينما الحقيقية”، ومن ثم ظهرت دعوات مقاطعة الديجيتال لصالح الخام، وكان من بين مطلقي تلك الدعوات مخرجين الصف الأول “بول توماس أندرسون” و”كوينتن تارانتينو” و”كريستوفر نولان”.
في هوليوود الكلاسيكية، كان استخدام الألوان مُكلفا، لذا فكان استخدامها عزيزا، يجبر صانع الفيلم بالخروج منها بأقصى نفع ممكن وأنجح توظيف وتنسيق لتلك الألوان. جودة المؤثرات البصرية لم تكن مقنعة، وذلك كان حافز إيجابي لصناع الأفلام بالاهتمام بما لهم تحكم فيه، وهو تكوين الكادر السينمائي بمنطق الفن التشكيلي وبدون وسائل الإبهار التي ظهرت في العقود التالية لتغطي على عيوب التكوين.
اخترت الكادر الأخير من فيلم “كل ما تتيحه الجنة” 1956 لدوجلاز سيرك، لأنه يجمع التميز في كل عناصر تكوين الكادر السينمائي: التصوير، والألوان، والإضاءة، والديكور، وتوزيع الممثلين، وكأنها لوحة مرسومة!