لا يمكن أن تجد، ربما في تاريخ العلم كله، تجربة فكرية أكثر شهرة من “قطة شرودنجر”. لا أحد يعرف السبب بالتحديد، ربما لأن التجربة قاسية جدًا مقارنة بطبيعة القطط ككائنات بسيطة. ربما لأن القطط مشاغبة، لا يمكن لك أن تمتلك درجات واسعة من اليقين تجاه سلوكها المستقبلي، وهو ما يتناسب مع طبيعة العالم الكمومي ومعادلاته الأنيقة.
يطلب إيرفن شرودنجر، الفيزيائي النمساوي الذي عشق الأدب واللغات، أن نضع قطّة في صندوق مغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة يُحتمل بنسبة 50% أن تتحلل ذرة منها وتتسبب في وفاة القطة.
بحسب تفسير كوبنهاغن لميكانيكا الكم، فإن هذه المادة المشعة توجد في ما نسميه بحالة “التراكب الكمّي”، أي أنها تكون متحللة وغير متحللة في الوقت ذاته، الأمر الذي يفرض نفسه على القطة أيضًا، فتكون – بالتبعية – ميتة وحية في نفس الوقت.
حينما نفتح الصندوق لن نجد أي مفاجآت. تكون القطة إما حية أو ميتة. هذا هو ما يحدث حينما نحاول أن نطل برؤوسنا داخل عالم الكوانتم.. ما إن نحاول أن نتلصص، أو نسترق السمع، أو نقيس أي شيء بالداخل، تفقد الذرات وضعها الكمومي إلى وضع ذاتي تمثله حالة واحدة محددة من الإحتمالات: حية أو ميّتة. أما إذا غضضنا النظر عنه فستعود الغرائب مرة أخرى.
من حين لآخر، يمكن أن ترى قطة شرودنجر على السوشال ميديا في صورة “ميم” بسيط تكون فيه حيّة وغير حية بنفس الوقت، كنوع من التهكم على تلك الفكرة الكمومية العجيبة، لكن الأمور دائمًا أكثر عمقًا – وإثارة في الحقيقة – مما تحمل تعليقات السوشال ميديا، كالعادة.
في تلك النقطة دعنا نتأمل اقتباسًا غريبًا لريتشارد فاينمان، الفيزيائي الأمريكي واسع الشهرة، يقول فيه: “سأموت وأنا مطمئن أن أحدًا لم يفهم ميكانيكا الكم”.
هل تتخيل ذلك؟ قال فاينمان هذا الكلام بينما كان واحدًا من أباطرة الكوانتم. وعادة ما يستخدم هذا الاقتباس لتوضيح أن الكوانتم هي مادة دراسية مرهقة لطلبة كليات العلوم لا يمكن تعلّمها بسهولة، مع شعار شهير للطلبة: “إذا كان ملك الكوانتم نفسه لم يفهمها، فهل سأفعل أنا ذلك؟! روّق بالك”.
لكن فاينمان لم يقصد ذلك في الحقيقة عزيزي طالب الفيزياء. بل يقصد أن مشكلة العالم داخل الذرات هي أنه لا يشبه أي شيء آخر نعرفه في هذا الكون. لا يشبه كواكب تدور حول شمس مركزية، ولا درجات سلّم ترتفع فيها قيم الطاقة بقدر محدد، ولا سحابة ما لها علاقة بالاحتمالات، ولا أي شيء آخر يمكن أن يدركه عقل أو يخطر على قلب بشر.
الفيزيائي، بالنسبة لعالم الكوانتم، يشبه هذا الفضائي بالنسبة لعالمنا. يقول فيرنر هايزنبرج – في كتابه “الفيزياء والفلسفة” – إن التناقض المحيّر الذي يظهر في عالم الكوانتم سببه أننا نستخدم لتفسيره لغة (فيزياء) كلاسيكية، لكنها اللغة الوحيدة التي نمتلكها.
في تلك النقطة يمكن أن نفهم السر في أن فريقًا من علماء الفيزياء، مثل نيلز بور وفيرنر هايزنبرج وريتشارد فاينمان، كان براجماتيًا في التعامل مع الطبيعة؛ اهتم فقط بما يمكن أن نحصّله عنها من معارف.
بمعنى أوضح، ليس من الضروري، ولا من الممكن، أن نعرف واقع ما يحدث داخل الصناديق المغلقة. لكن يمكن لنا أن نبني نماذج رياضية مفيدة في توقع مستقبل تلك الصناديق بلغة الاحتمالات، بغض النظر عن جوهرها.
قطة شرودنجر من تلك الوجهة، هي فقط – كما كتب لها أن تكون – مجرد تجربة فكرية مثيرة للانتباه.
لو أن قطة شرودنجر أنشأت حسابًا على فيسبوك، لن تمتلك الكثير لتقوله، لأنه لا توجد لغة لتشرحه، حتى لغة القطط.
يشرح نيلز بور الفكرة بأن بدأ كتابة “النظرية الذرية ووصف الطبيعة” بغلق هذا الباب قائلًا إنه أثناء وصفنا للطبيعة، فإن مهمتنا ليست الكشف عن جوهر الظاهرة، بل عمل كل المحاولات الممكنة لتعقب العلاقات بين الجوانب متعددة الوجوه لخبرتنا عن هذه الظاهرة.
كم هي غريبة هذه الطريقة في النظر إلى العالم! كيف يمكن أن نتعامل مع شيء لا يمكننا فهم جوهره؟ كيف يمكننا تأسيس منهج لا يهتم بفهم الحقائق طالما أنها صعبة أو مبهمة، بل يهتم بالفائدة المحصّلة منها كحل مبدئي؟
الأغرب أن هذه الطريقة مفيدة حقًا. في الإلكتروديناميكا الكمية مثلًا، وهي النظرية التي حصل بسببها ريتشارد فاينمان على نوبل 1965، أمكن توقّع قيمة العزم المغناطيسي للإلكترون، والتي ظهر أنها تساوي 1.001159652182 وحينما صممت التجارب لقياس نفس القيمة ظهر أنها تساوي 1.001159652181
هل تلاحظ الفارق؟ كان فقط في الرقم الثاني عشر بعد العلامة العشرية. حسابات فاينمان نجحت في الحصول على دقة بقدر واحد في التريليون، إنها درجة من الدقة لم تحدث من قبل في تاريخ العلم.
بالطبع يقف أينشتين على النقيض تمامًا من تلك الفكرة، فقد اعتبر أن الفيزياء تتحدث عن وقائع العالم الفعلية، بالتالي ليس من الممكن أبدًا أن توجد نظرية مكتملة تقول إن العالم غير موجود حينما لا ننظر إليه.
ورغم النجاح المدوي للنظرية الكمومية فإن أينشتين كان يرى هذا كهراء أنيق، واتفق معه عدد من الفيزيائيين كإيرفن شرودنجر نفسه، والذي ابتكر التجربة من الأساس ليقول أن عالم الكوانتم هزلي، وإلا فكيف يفسر تجربة كهذه تموت القطط فيها وتحيا في نفس الوقت؟
حسنًا، ربما كانت “روث” ابنة شرودنجر صادقة حينما قالت يومًا ما: “ربما فقط أن أبي لم يكن يحب القطط”.