يستدعي شهر يوليو في المنطقة العربية جدالًا مكررًا ومعادًا حول الديمقراطية؛ باعتباره واحدًا من الأشهر الخاصة في تاريخ المنطقة العربية، إذ يرتبط بتواريخ 23 يوليو 1952 ، و 3 يوليو 2013 ، و 14 يوليو 1958 ، و 17 يوليو 1968 ، و30 يوليو 1968، وهي كلها تواريخ ترتبط بتغييرات سياسية استندت إلى القوة العسكرية في كل من مصر والعراق، وهما أول بلدين في المنطقة حققا قدرًا كبيرًا من الاستقلال المعترف به دوليًا عن الاستعمار الأجنبي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وكلًا منهما كان ولا يزال مركزًا ثقافيًا مهمًا للتأثير في المنطقة ككل.
إلا أن تجربة البلدين وإن اختلفت كثيرًا في تفاصيلها نتيجة الاختلافات في تركيبة المجتمع، لكنها تكاد تكون وصلت لنفس المضمون الذي يقول إن الخيارات المتاحة في هذه المنطقة: إما استبداد سياسي بدرجات متفاوتة يتراوح ما بين قمع صدام وموائمات مبارك، أو ديمقراطية شكلية ضعيفة كسيحة المضمون ومتأثرة بسلطة خارجية بشكل كبير كديمقراطيات العهد الملكي في البلدين، أو ديمقراطية سيطرة الأحزاب الدينية.
حديث يوليو إذًا حديث ذو شجون، لكنه برغم استدعائه سنويًا لمهاترات لا حصر لها، وكأنها صراع الديكة حول المتسببين في الكوارث، لكنه أيضًا يستدعي التفكير في أسباب استمرار فشل التجربة الديمقراطية في المنطقة في تحقيق قدر من النجاح لدي الجمهور، بما يضمن إقناعه، ويضمن في الوقت نفسه بقاء الديمقراطية.
من الملاحظ أن كل هذه التغييرات وغيرها في مختلف بلدان المنطقة ومختلف شهور السنة كانت دائمًا تحظى بتأييد شعبي واسع، بما يعني أن التململ الشعبي من النظام القائم هو حالة شبه مستمرة في مجتمعات المنطقة، بل إن مجتمعات المنطقة لا تذكر قادتها الديمقراطيين (النحاس مثلًا) بالإعجاب بقدر ما تذكر القادة الاستبداديين (عبد الناصر أو صدام أو عبد الكريم قاسم) وبرغم أن هذا بالطبع يُعزى لعوامل مختلفة، إلا أنه يبين طبيعة المزاج الشعبي الذي يقاوم تشكيل التجربة الديمقراطية بشكل يجعلها فاعلة على نحو يرضيه ويحقق تطلعاته.
فمن المعروف أن الديمقراطية لم تكن مطروحة قبل بداية القرن التاسع عشر في أي مكان عدا بريطانيا والولايات المتحدة، بالإضافة لتجربة فرنسية متعثرة، وأنه رغم الدفعة التي حققتها ثورات عام 1848 ، إلا أن المنظومة الديمقراطية ظلت محصورة في عدد محدود من بلدان غرب أوروبا والبلدان ذات التراث الإنجليزي حتي نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم بدأت المنظومة الديمقراطية في الاتساع شيئًا فشيئًا بسرعة بطيئة في فترة الحرب الباردة، ثم بسرعة كبيرة بعد نهايتها، إلى أن وصلنا لعالم اليوم، الذي من المفترض فيه -نظريًا- أن عدد الديمقراطيات فيه أكبر من عدد الأنظمة المستبدة، وهو ما يعني أنه لو تم إجبار السلطة على النظام الديمقراطي فإن الازمة ستحل، بما أننا نلاحظ أن معظم دول العالم دخلت عالم الديمقراطية في العقود الثلاثة الأخيرة.
اقرأ أيضا: الشيطان في الديمقراطية
ويحلو لمعارضي الاستبداد في مجتمعاتنا، خصوصًا من أنصار الأحزاب الدينية، إبراز هذه النقطة للتأكيد على أن العالم كله تحول للديمقراطية ما عدا المنطقة العربية وبعض الدول الأفريقية والآسيوية، كمحاولة للتأكيد على أن المشكلة هي من صنع السلطة الحاكمة ولا علاقة لها بالمجتمع.
ورغم أن هذا الكلام يبدو وجيهًا للوهلة الأولى، إلا أنه ليس كذلك بالضرورة عند النظر بتدقيق إلى تعريف وخصائص النظام السياسي الديمقراطي.
الإيكونومست وضعت مؤشر الديمقراطية تأسيسًا على عوامل مختلفة بهدف قياس الحالة الديمقراطية في معظم دول العالم.
وفقا للمؤشر، تم في عام 2017 تصنيف 115 دولة باعتبارها ديمقراطية، من ضمن 166 يشملها التقرير الذي يصدر دوريًا، والباقي دولا استبدادية.
لكننا سنعود لنلاحظ أنه من ضمن هذه الـ 115 تم تصنيف 39 باعتبارها أنظمة هجينة، وفي مرحلة انتقالية، ليتبقى 76 فقط.
ثم سنعود لنلاحظ أنه تم تصنيف 57 من ضمنها باعتبارها ديمقراطيات معيبة (وهذه المجموعة تشمل دولًا بأهمية الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان والبرتغال وكوريا الجنوبية) نتيجة لأسباب مختلفة، من أبرزها ضعف المشاركة الديمقراطية، ليتبقى في النهاية 19 دولة فقط تصنف باعتبارها ديمقراطيات كاملة، هي في الأساس الدول الاسكندنافية، ومرة أخرى بريطانيا، ومعظم دول التراث البريطاني (أيرلندا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا) وبضعة دول أخرى أبرزها ألمانيا وإسبانيا.
وبالنتيجة، فإنه وبرغم أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتل بالفعل أسفل الجدول كأسوأ مكان من حيث مؤشر الديمقراطية في التوزيع الجغرافي، مما يؤكد ضرورة القيام بإصلاحات كثيرة، إلا أنه في الواقع فالديمقراطية لا تزال شكلية أو ضعيفة في معظم دول العالم التي لا تملك أصلًا الثقافة الديمقراطية، فما بالك مثلًا بمنطقة تحكمها ثقافة الأحزاب الدينية القائمة بالأساس علي قمع الحريات المدنية؟
الخلاصة من هذا كله أن هناك شروطًا لإقامة الديمقراطية الحقيقية، والرأي العام في مجتمعاتنا يعادي بعض هذه الشروط، ومن دون الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن يجربها المواطن ويشعر بنجاحها، ولا يمكن بالتالي أن تحظى بشعبية تحميها، وهكذا ندور في حلقة مفرغة من الجدل البيزنطي لا تتوقف إلا بالبدء في تحقيق هذه الشروط.