باحث بجامعة لوزان - سويسرا
في الجزء الأخير من سلسلة ملف السويس (طالع الجزئين الأول والثاني)، سنعرض جانبًا من التبعات التي أعادت تشكيل خريطة القوى السياسية في عالم اليوم، انطلاقًا من هذه الحرب.
الهزيمة السياسية لبريطانيا مثلت النهاية الرسمية للإمبراطورية التي شاخت وباتت بحاجة لصفعةٍ تُفيقها على الواقع الجديد.
إيدن اختفى في عاره، وتولى الحكومة بعده ألد معارضيه هارولد مكميلان. لكن الأهم أن عقدة السويس Suez Syndrome أثرت على قرارات السياسة الخارجية في بريطانيا بعدها.
في حرب الفولكلاند 1982، استوعبت حكومة المحافظين الدرس كاملًا، ولم تحاول التحرك لتغيير ما تراه غير قانوني إلا بعد التأكد من الحصول على ضوء أخضر أمريكي، الأمر الذي أدى تجاهله في أزمة السويس لنتائج مدمرة.
استوعبت بريطانيا درسًا آخر، وهو أن اتخاذ قرار بالتحرك العنيف لحماية مصالحها يحتاج تبريرًا شرعيًا.
نظريًا، وعلى عكس المقالات العربية التي للأسف لا تتعامل بموضوعية في مسألة تأميم قناة السويس، لم يخرق جمال عبد الناصر القانون الدولي، فقد كان من حق مصر تأميم القناة، لكن مع الحفاظ على أمرين أساسيين: ضمان حرية الملاحة بحسب اتفاقية القسطنطينية، ودفع تعويضات للمساهمين تناسب حجم أسهمهم. مصر استوفت المسألة الأولى وعرضت الثانية، فلم يكن هناك أي سياق قانوني يسمح لبريطانيا بأن تشكو مصر إلى الأمم المتحدة. أما في حالة حرب الفولكلاند، فقد قننت بريطانيا موقفها أمميًا.
استيعاب الدرس لم يكتمل في جوانب أخرى؛ حرب العراق 2003 بدأت كما بدأت أزمة السويس، بتقارير استخباراتية “مفبركة”.. في السويس وصلت سلسلة تقارير من جاسوس “وهمي على الأرجح” أعطى تقديرًا خاطئًا للموقف يزعم أن عبد الناصر شيوعي. أما في حالة العراق، فاستخدم توني بلير تقارير خاطئة عن أسلحة نووية غير حقيقية كذريعة لشرعنة ما فعله، الأمر الذي أعاد استدعاء أزمة السويس في ذاكرة السياسة البريطانية.
الجانب الأخطر في تبعات السويس – بحسب التقارير المتتالية بعد الحرب – هو الشعور بالمهانة (لم أقرأ تقريرًا يخلو من اصطلاح humiliating defeat) الناتج عن الشعور بأن بريطانيا وفرنسا يمكن أن يخسرا ظهيرهما في الحرب الباردة، وهو الولايات المتحدة.
هذا الشعور المهين كان دافعًا للبدء في تسلح أوروبا نوويًا. يُظهر تقرير سري للمخابرات الأمريكية في مايو 1957 – أي أثناء وضع الإجراءات النهائية لإعادة فتح قناة السويس – أن فرنسا من ضمن أربعة دول تعمل على تصنيع سلاحها النووي، إلا أنها الوحيدة التي تملك المواد الضرورية، متوقعًا امتلاكها رؤوسًا نووية خلال عام واحد.
التقرير أشار إلى أن فرنسا تعمل على الأمر دون العودة للولايات المتحدة نظرًا لما حدث (في إشارة لأزمة السويس).
وفور الانتهاء، يخرج تقرير آخر نبأ امتلاك فرنسا للسلاح النووي، ويشير بوضوح إلى أن السويس هي السبب.
سارعت بريطانيا أيضًا بتطوير سلاح متقدم يكفل لها القدرة على ردع الاتحاد السوفييتي إذا تخلت أمريكا عنها (مجددًا)، وهو النووي الحراري – Thermonuclear Missiles. إلا أن الأهم هو الشعور العام في أوروبا بالضيق من موقف أمريكا الشديد تجاه قوتين أوروبيتين.
هنا يبدو أن مستشار ألمانيا المخضرم قد استغل المسألة على أصعدة مختلفة وبذكاء. فقد تصادف أن دول أوروبا كانت بصدد اجتماع مهم، يُعد تأسيسيًا لفكرة التعاون الاستراتيجية الذي سيفضي إلى ما نسميه الآن بـ “الاتحاد الأوروبي”، بعد أزمة السويس. هناك، التقى أديناور بديجول ومكميلان وقال لهما مباشرةً:
هنا قادت ألمانيا وإيطاليا المساعي لتكوين اتحاد يتجاوز في جوانب تعاونه الأمور الاقتصادية إلى الأمنية، بدرجة تجعله قادرًا على مواجهة الاتحاد السوفييتي حال تخلي واشنطن عن أوروبا (مرة أخرى)، فصارت أزمة السويس فصلًا رئيسيًا في الدراسات التاريخية لنشأة الإتحاد الأوروبي ومبررات اتخاذه الشكل الذي نعرفه اليوم.
لا أعرف تحديدًا إن كانت الثنائية (منتصر، منهزم) يمكن أن تصف الواقع المعقد الذي خلقته أزمة السويس، أو ما كشفته عن تعقيد الوضع الداخلي في مصر.
نعم، خرجت بريطانيا وفرنسا منهزمتين بشكلٍ مذل، لكن إسرائيل كشفت عن قدرات عسكرية مذهلة، حيث كشرت دولة الكيبوتزات الضئيلة الفتية عن قدرات عسكرية مكّنتها من كسر حاجز الخوف التاريخي لدى الإسرائيلي تجاه مصر، وحولتها من مجرد تجمع يمكن التعامل معه، إلى أمر واقع يقنع الولايات المتحدة بتجاوز فضيحة لافون والتعاون معه كشريك يمكن الاعتماد عليه.
دخلت مصر معركة الاستقلال سنة 1954 بمجلس قيادة ثورة يعكس تنوعًا في أ) الإمكانيات، وب) التوجهات.
لم يكن عبد الناصر يساريًا، ولم يكن يملك من أمر مصر ما يجعله قائدا أوحد يفرض رؤيته. تسللت مع المجلس أشخاص عديدة من ضباط الصف الثاني: القادمين من الخلف غير المعروفين أو المرئيين، سيتضخم شأنهم بفضل التواصل مع جهات أجنبية ومحلية.
خرج هذا الكيان المتشابك من حرب 56 على الصورة التي ستحكم مصر حتى مايو 1971.
الذي قاد جهاز المخابرات العامة على أقصى درجات الكفاءة وتولى التنسيق الأمني والسياسي مع الدول الغربية، زكريا محيي الدين، سيكافأ على إدارته الناجحة بإقصائه في معركة النزاع مع ضباط الصف الثاني بتوجهاتهم الشيوعية، والذين سيسيطرون على مفاصل الدولة، وعلى قنوات المعلومات من وإلى عبد الناصر. ولما صار الأخير طيّعًا في يدهم، فكان تأليهه بعد الانتصار المزعوم واجبًا لحمايتهم هم.
أما الثابت داخل مصر في إمكانياته قبل وبعد حرب 56 (حتى نهاية حقبة ناصر) فهو الفشل العسكري المذهل، والذي قاده طرف آخر في معادلة الحكم، صار أيقونة الفشل العسكري تاريخيًا.
كان الفشل العسكري مذهلًا إلى الدرجة التي أربكت الغرب نفسه. لقد أعطى البريطانيون إسرائيل أسبوعين لكي يصل الجيش الإسرائيلي إلى المضائق، فاكتشف الإسرائيليون أن احتلال سيناء كان سهلا بالدرجة التي جعلتهم يصلون إلى مبلغهم في منتصف المدة، ولما كان الاتفاق هو أن تصل إسرائيل بعد أسبوعين، وهي نفس الفترة التي يحتاجها البريطانيون للسيطرة على مدن القناة، فإن سهولة وسرعة الانتصار الإسرائيلي أحرجت البريطانيين وأربكت التنسيق وتسببت في فشل الخطة.
إمعان عبد الحكيم عامر في الفشل العسكري أدى إلى إفشال الخطة البريطانية. إن كان هذا هو مفهوم الانتصار، فليكن! لقد نجحت دول العدوان عسكريًا في تدمير كل السلاح الجوي المصري، ومن المذهل أن هذا سيتكرر بتفاصيله الكاملة سنة 67 مرةً أخرى.
أما الانتصار السياسي المزعوم فهو أيضًا ما لا أفهمه. لقد دخل عبد الناصر الحرب حاملًا لواء تشكيل كيان سياسي دولي من دول عدم الانحياز، فلما علم أنه خسر الحرب ارتمى بمصر في أحضان الاتحاد السوفييتي الذي سيتسيد الوضع في مصر منذ ذلك الوقت. فخسرت مصر عبد الناصر كل فرص خلق سياسة دولية متوازنة، أو حتى مستقلة.
أما عبد الناصر، فلم يخرج منتصرًا، بل يمكن وصف خروجه من الحرب بأنه خروج منتفخ: تفنن الرجل في خسارة كل الفرص التي يمكن أن تعيده إلى مظلة الدول الناضجة سياسيًا في التعامل مع القوى الإقليمية، وتعامل كزعيم مطلق القوة، بمعاونة رجال سيعترف بعضهم لاحقًا بتواصلهم مع الاتحاد السوفييتي لهذا الغرض. وسيأتي عبد الناصر بدولة ضعيفة، لها نظام سياسي واقتصادي وعسكري مهترئ، سيجلب على مصر المزيد من الهزائم المذلة.
هنا أختتم بمحاكمته أمام آلهة مصر وأبطالها، كما رسمها نجيب محفوظ في روايته أمام العرش، حيث تكلم الملك مينا فقال:
ثم تبعه تحتمس الثالث فقال:
ثم تبعه أمحتب:
ثم تستمر المحاكمة، وتستمر معها ردوده التي حيرت مجلس الآلهة فلم يعرفوا كيف يحاكمونه.
تنشر لأول مرة| سقوط الملك فاروق.. وثائق المراسلات السرية للمخابرات الأمريكية | مينا منير
تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير
النور الساطع | لأول مرة بالوثائق: أخطر أسلحة إسرائيل في حرب أكتوبر.. هل كان حقيقيًا؟ | مينا منير