من دوري الأنفار إلى البريمييرليج .. حكاية الأموال وكرة القدم | رواية صحفية في دقائق

من دوري الأنفار إلى البريمييرليج .. حكاية الأموال وكرة القدم | رواية صحفية في دقائق

1 Aug 2018
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

 كنت متابعا شغوفا لدوري بلديات في محافظة سوهاج، مصر، ثم متابعا أكثر شغفا للبريمييرليج، إنجلترا. من هذين الدوريين عرفت كيف يمكن إنجاح كرة القدم.

ولا.

ليس بزيادة الإنفاق عليها.

أو إغراقها بالأموال.

1

سحر التليفزيون

لم يكن الدوري القروي مذاعا تليفزيونيا. لكن أشهر حكامه، الكابتن عبده الشريف، كان مصورا فوتوغرافيا يملك استديو خاصا به. وفي مباراة النهائي بين قرية كوم العرب وبلدة طما، التي كان يحكمها، قرر أن يصورها بالفيديو. الفيديو في الثمانينيات جديد على المجتمع المصري. تصوير فرح بكاميرا الفيديو حدث يتباهى به أصحابه، أما تصوير مباراة كرة فكان .. لا أعرف. لقد كنت مجرد طفل يشجع وسط مئات المشجعين. لكني شعرت في وجود الكاميرا وكأني في كأس العالم. لم أتخيل جائزة للاعب كرة أفضل من أن يرى نفسه على شاشة التليفزيون وهو يلعب. لا يهم هاهنا عدد مشاهديه على التليفزيون. المهم أن يرى نفسه. هذا يجعله على قدم المساواة مع بيبو وحسن شحاتة.

حتى وقتها كان هناك خلاف بين أندية الدوري المصري وبين وزارة الإعلام حول حقوق البث التليفزيوني لمبارياتها. وكان الأهلي، من حين إلى آخر، يرفض إذاعة مبارياته حتى يتم سداد الحقوق المتأخرة. البث التليفزيوني مورد اقتصادي أساسي لرياضة تحتاج إلى نفقات. وإلى تنافس على شراء أفضل “الكفاءات” في اللعبة.

غياب البث التليفزيوني عن الدوري القروي أعفاه من هكذا خلافات. لكنه لم يعفه من المعادلة الاقتصادية. لقد انهار هذا الدوري سريعا لأن لاعبيه لا يستطيعون التفرغ له. يحتاجون إلى أموال للإنفاق على عائلاتهم، وللإنفاق على تنقلاتهم وتغذيتهم وملابسهم الرياضية. فضلا عن “الدافع”. كان بعض من هؤلاء على عادة أبناء الصعيد يعملون “أنفارا” أثناء الإجازة الصيفية لكي يستطيعوا إعالة أهاليهم. ومن المستحيل لهم أن يتركوا العمل “علشان لعب الكورة”.

الدوري الإنجليزي نفسه، في تلك الفترة من أواخر الثمانينيات، كان يمر بأسئلة اقتصادية مشابهة. الازمة الاقتصادية تهدده هو الآخر بالانهيار، بسبب انخفاض الإيرادات عن النفقات التي تؤهل فرقه الكبرى للمنافسة على أفضل اللاعبين. والأندية الخمسة الكبرى لم تكتف برفض إذاعة مبارياتها كما كانت الأندية المصرية تفعل. بل تحركت بالفعل لإنشاء “دوري انفصالي” لا يخضع لإشراف اتحاد الكرة الإنجليزي. ونجحت في إقناع ١٤ فريقا من أصل ٢٢ كان مقررا لها المشاركة في موسم ٩١/٩٢ بتشكيل “الرابطة الكروية” التي ستتولى الإشراف على الدوري الانفصالي.

اتحاد الكرة قدم دعوة في المحكمة العليا. وهذه أفادت بـ “عدم الاختصاص”. فرضخ اتحاد الكرة الإنجليزي. رضخ لمن؟

رضخ للأرقام.

في الحقيقة لم تكن الإدارة الكروية المركزية عادلة، بل إدارة “موظفين”، رافعي شعارات ظاهرها “المصلحة العامة” وباطنها مصلحة بقائهم. يحصلون على حقوق البث التليفزيوني ويوزعونها على جميع الفرق المنضوية تحت مظلة “اتحاد الكرة”. رغم أن الجمهور يشاهد بشكل أساسي مباريات الفرق الكبرى، فرق الدرجة الأولى كما كانت تسمي نفسها.

حين رفضت المحكمة التدخل، وتركتهم لموازين القوى على الأرض، أدرك اتحاد الكرة أن الرابطة الكروية الجديدة هي التي ستجذب المشاهدين، وهي التي ستنظم الدوري الذي يريده هذا الجمهور.

والرابطة الجديدة فتحت باب المنافسة على حقوق البث. واقتنص روبرت مردوك الفرصة وتقدم بعرض أعلى حصلت بموجبه شركته “سكاي” على حقوق البث التليفزيوني. لقد رأى “الموظفون” سلطتهم توشك على الانهيار أمام أعينهم. لم يعد لديهم شك أنهم فقدوا السيطرة الاحتكارية، وأن إنجلترا، التي حكمتها مرجريت ثاتشر ١٢ عاما قبل تلك السنة، تخلصت فيها من كثير من الإرث الاقتصادي المركزي، ستنصرف عنهم، وعن احتكارهم للتسعير، واحتكار القنوات الرسمية للبث. ولتحديد السعر. ولتوزيع الربح.

بتحرير سلعة البث التليفزيوني، وإخضاعها للعرض والطلب، رأى المستثمرون فرصة الربح. تشجع بعضهم  لشراء “هذه الشركات” (الأندية) والاستثمار فيها. هذا الاستثمار يعمل بنفس منطق السوق، يبحث عن الجهة الواعدة، ويضخ فيها أموالا، لكي يتلقى منها أرباحا.

أندية مثل تشيلسي، ومان سيتي، وتوتنهام، أغرت هؤلاء المستثمرين. والنتيجة من الناحية الاقتصادية أن مزيدا من الأندية صارت قادرة على المنافسة. وبالتالي زادت قوة البريمييرليج، وصارت البطولة الأوروبية الأساسية (التشامبيونزليج) تخصص فيها مكانا لأربع فرق إنجليزية. وصار البريمييرليج أقوى دوري في العالم.

وهذه شاهد التنافسية. لو قسمنا عمر البريمييرليج حتى ٢٠١٧ إلى قسمين، سنجد أن النصف الأول فازت به ثلاثة أندية. والنصف الثاني فازت به أربعة أندية، منها ثلاثة لم تفز به من قبل.

مزيد من الأندية تنافس، مزيد من الأندية تجذب مستثمرين، مزيد من الأندية تملك قدرة على شراء لاعبين متميزين.

منافسة الأندية الكبرى على اللاعبين الأغلى في العالم لم تفقر الأندية الأصغر، بالعكس، لقد صار كثير منها في وضع أفضل. من ناحية تضاعفت مداخيل البريمييرليج، هذا جدول من من بي بي سي يبين الزيادة في الدخل الذي يحققه البريميير ليج من البث التليفزيوني، والذي ينال الجميع نصيبا منه. وهو، كما نرى، تضاعف أكثر من ٤٠ مرة، لو قارنا مداخيل الموسم.

الفائدة الأخرى أن اللاعبين الذين كان مستواهم سابقا يؤهلهم للعب أساسيين في الأندية الكبرى، صاروا الآن يصنفون في في الصف الثاني، ويفضلون من ثم أن يذهبوا إلى ناد أقل لكي يحظوا بفرصة اللعب أساسيين. الثروة المهارية، بهذا المعنى، يعاد توزيعها على الفرق. الثروة المهارية تتساقط من أعلى الشجرة على الجميع. تماما كما حدث مع الثروة المالية والأرباح. هذا ما يحدث في الاقتصاد المفتوح الذي نتعامل مع البريمييرليج هنا كنموذج له.

أما الثروة المادية فلا تتساقط على اللاعبين فقط، كما قد نتخيل حين نسمع قيم العقود الخاصة بهم. فهناك دائرة كبيرة من ذوي العلاقة المباشرة باللعبة، ودائرة أوسع من المنتفعين بطريقة غير مباشرة. حاول أن تتخيل مداها. لن تستطيع. لكن القسم الثاني من هذا المقال سيوفر لك مجموعة من الصور تفيدك في هذه المهمة.

2

الجمهور هو الموتور

المحرك الأول للألعاب الشعبية هو الجمهور. بالمعنى المجازي في التشجيع، وبالمعنى المادي أيضا. رأينا كيف ساهمت المشاهدة التليفزيونية في تحويل الكرة إلى “استثمار ناجح”. هنا سنرى الجانب الآخر، المشاهدة الحية في الملاعب.

١٢٪ من مالكي التذاكر الموسمية في البريمييرليج أطفال تحت السادسة عشرة، يدركون المتعة الكروية ويتفاعلون معها، ويصرخون من الإعجاب كأقرانهم المراهقين والمراهقات في الحفلات الموسيقية. يتنقل هؤلاء مع أهاليهم أو في رحلات جماعية لكي يتابعوا المباريات. يشترون تذاكر قطار، وأطعمة ومشروبات، وأحذية وملابس رياضية، أحيانا يستغلون فرص المباريات للسياحة والمبيت في المدن المضيفة.

هكذا يحركون الاقتصاد.

لم أكن أنا ورفاق القرية نسافر خلف فريقنا بالقطار، بل بسيارة نصف نقل (تايُّو‪وته كما يطلق عليها أبناء القرية) مفتوحة، تسير في طرقات قديمة غير ممهدة. لم نبال بالتراب الذي يغطينا حتى الشعر والرموش، مع خطوط سوداء في الرقبة حين يختلط بالعرق. كنا كأقراننا نشتري متعة كرة القدم، وندفع مقابلها جهدا، ومالا. نستأجر سيارتين أو ثلاثا وندفع لسائقها، نشتري عصائر وسندوتشات من المحال المحيطة بالملعب. كنا نحرك الاقتصاد المحلي أيضا، ولو بقدر محدود.

لكن حركة الاقتصاد شرطها التنافس، هو مولد المتعة في كرة القدم. البريمييرليج ما كان ليحقق مزيدا من النجاح الاقتصادي إلا بتحقيق مزيد من المتعة. وما كانت المتعة لتتحقق إلا بالإدارة الاقتصادية الناجحة. في طفولتي كانت علاقتي بالدوري الإنجليزي تتلخص في مباريات مسجلة وممنتجة يقدمها كابتن حمادة إمام، كل يوم أحد. وكانت غالبا مباريات فريق ليفربول الإنجليزي. فكنت لا أعرف في الدور الإنجليزي إلا أيان راش، وليفربول، وبعض أسماء فرق أخرى زارت مصر قبل مولدي، وبقيت حكاياتها. لكن الدوري الإيطالي كان أكثر شهرة وأثرى وأكثر إثارة. أعرف أسماء نابولي وميلان ويوفنتوس وروما.

الآن، بعد خمسة وعشرين عاما من بدايته، صار البريمييرليج الأقوى في العالم، ويزداد قوة من عام إلى عام، ويدرب فيه جراديولا ومورينيو وكونتي وكلوب، مدربو برسلونة وريال مدريد ويوفنتوس وبايرن ميونيخ في العقد الأخير.

لقد صار أكبر دوري كروي في العالم من الناحية الاقتصادية. وأكبر دوري في أي رياضة على الإطلاق خارج الولايات المتحدة، والثاني عالميا بعد دوري كرة القدم الأمريكية (في أمريكا يسمون كرة القدم التي نعرفها السوكر). ولو قيس الأمر بعدد السكان لكان الأول في العالم، متقدما حتى على دوري كرة القدم الأمريكية.

فأين يذهب كل هذا الثراء؟!

حين نتحدث عن الاقتصاد في كرة القدم يتبادر إلى الذهن مباشرة أن هذه أموال تذهب إلى جيوب فئة محدودة، وهي نظرة اقتصادية قاصرة ومعطلة، سواء في كرة القدم أو في غيرها من الأنشطة.

مساهمة البريمييرليج في الاقتصاد متنوعة. موجزة في الرسم التالي، القيم المالية محسوبة بالسنة.

بالإضافة إلى ذلك، صار البريمييرليج بوتقة اجتماعية، منظومة سلوكية لمختلف فئات المجتمع، يعبرون فيها عن قيمه. أكثر مظاهر حضارة البشر هي قدرتهم على إدارة التواجد بأعداد كبيرة في مكان واحد، بطريقة متناسقة، قادرة على الاستجابة لتعليمات دون تدريب مسبق.

لاحظوا في الإنفوجرافيك التالي الفئات العمرية والعرقية فيه التي تجتمع في مكان واحد بعشرات الآلاف. لاحظوا أيضا الفارق بين حضور المباريات وإشغال المدرجات لدى بداية البريمييرليج، عام ٩٢، مقارنة بالوضع الحالي. كل هذا مع تعاظم أرباح البريمييرليج، حتى صار دخله مساويا لمجموع مداخيل الدوريات الثلاث الكبار الأخرى في أوروبا.

كما أنه سبب لثراء أصحاب مواهب بعضهم قادم من أفقر فئات المجتمع، لا يملكون سوى الموهبة والشخصية التي تؤهلهم لأن يكونوا نجوما.

النجاح الاقتصادي للبريمييرليج أدى إلى توسع مشاريعه في المجتمع.

  • أكثر من نصف مليون مشروع للصغار يموله البريمييرليج مباشرة.

  • هناك ما يقرب من ٤٢٠٠ مدرسة مشاركة في البرامج التعليمية والرياضية التي ينفذها البريمييرلييج.

إنما الدورة الاقتصادية في مجتمع رأسمالي لا تتوقف. ويبدو أن البريمييرليج لن يكون نهاية المطاف. الفرق الكبرى صارت تطالب بنصيب أكبر من حصتها في الأرباح لكي تستطيع المنافسة مع الفرق العالمية على شراء أفضل اللاعبين والمدربين.

 هناك فكرة بإنشاء دوري أوروبي انفصالي جديد، تنافس فيه الفرق الكبرى من أوروبا كلها، بنظام الدوري، وليس بنظام الكأس كما هو الحال في التشامبيونزليج. هل يمضي هذا المشروع قدما؟ سنعرف هذا مستقبلا.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك