—
بهذه الفقرة يصف المؤرخ ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/ 1530م) المعاصر للغزو العثماني لمصر، فى سِفره الكبير “بدائع الزهور في وقائع الدهور” مشهد خاتمة السلطان الأشرف قانصوه الغوري بساحة معركة مرج دابق بالشام، موضحًا أنه لم يُقتل، وإنما حين أخبره قادته بانكسار جيشه أمام العثمانيين أصيب بالشلل أو بانفجار بالمرارة، أو عجَّل بموته بابتلاع فص الماس.
وأما عن أمر قطع رأس الغوري من قبل مماليكه ورميها فى الجُب، حتى لا يتعرف عليه العثمانيون ويطوفون بها بلادهم، والواردة بأحداث مسلسل “ممالك النار”، فقد أوردها ابن زنبل الرمال (ت بعد 960هـ/ 1553م) في كتابه “واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني” وهو المتنبئ قارئ الرمل، الأقل شأنًا فى أمر التأريخ من ابن إياس، وإن كان موردًا لتفاصيل كثيرة ملهمة داخل ثنايا روايته التاريخية!
بلغ الغوري عند وفاته الثامنة والسبعين من عمره.
عند تلك اللحظة، بدأ تهاوي بناء عصر دولة سلاطين الممالليك بمصر والشام. هذا التهاوي كان مدهشًا وخاطفًا إلى درجة لا تصدق، فمملكة مترامية تمتد أراضيها بين مصر والشام والحجاز، ذات بناء يشترط فيه التماسك والقوة والسيطرة السياسية، بل والمهارة العسكرية للقادة أنفسهم، ينهار على مستوى مؤسساته الحاكمة، وتتلاشى فيه السلطة الحاكمة لقرابة ثلاثة قرون، ويتشتت رجالها فى البلاد فى غضون ثلاثة أشهر ونصف تقريبًا.
لكن تعاطي الحدث من أحبار المؤرخين المعاصرين قد يهون بعض الشيء من وقع الدهشة، فابن إياس الحنفي، ورغم سرده لجرائم العثمانيين في مصر بحق البشر والحجر، إلا أن سردياته لم تخلُ من صب اللوم على رؤوس المماليك، عائدًا بأسباب الهزيمة لصراعاتهم الممتدة، وظلمهم للعامة في عصرهم.
يوضح الدكتور قاسم عبده قاسم، أستاذ تاريخ العصور الوسطى، فى تقديمه لكتاب “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” للمؤرخ المملوكي ابن تغربردي (ت 874هـ/ 1469م) – دور التاريخ لدى المؤرخ المسلم، وكونه وظيفة تربوية تعليمية عملية، بمثابة مدرسة للحكام، استشهادًا بما ذكره ابن تغربردي نفسه فى مفتتح كتابه:
ويرى أن:
وهو معنى قريب مما يذكره الجبرتى (ت 1241هـ/ 1825م) فيما بعد بمستهل كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”:
ويستطرد “الجبرتي” في صدفة تأسيس منهج التاريخ في الإسلام، حين وقع خلاف بسبب مراسلة جرت بين أبو موسى الأشعري وعمر بن الخطاب، لم يفهم منها الأشعري أي شهر شعبان هو المقصود بالخطاب، أهو شعبان التالي أم السابق، مما جعلهم يلجأون لاتباع نظام “ماه روز” الفارسي وتعريبه بـلفظة “مورخ” ومصدره التاريخ، واستقروا على بدء التأريخ منذ هجرة النبي.
الرؤية دينية المصدر لتأسيس التاريخ وصيرورته لها دور بارز في تقبل المؤرخين لفجائع الوقائع التاريخية، والتعامل معها في إطار سنن الكون الإلهية والإقرار والتسليم بها بهدوء.
وهو ما نراه مثلًا فى عبارات يوردها تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/ 1441م) في “الخطط المقريزية” عند ذِكر دولة ابن طولون، من بعد سرده لممتلكات وبساتين وثراء الطولونيين، ومدى الأبهة التي عاشوها، حتى أن شعراء الميدان المتغنين بأمجاد ابن طولون دونت أسمائهم فقط دون أعمالهم في اثنتي عشرة كراسة كاملة!
فيختم قوله عند هلاك “القطائع” عاصمة الطولونيين، في زمن الشدة المستنصرية بـ “والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين”.
أو حينما يذكر بعض الخراب الواقع بمصر ومساكنها فى القرن الثامن الهجري كنتاج لانتشار الطاعون، والذى أسماه الفناء الكبير، وحدوث الوباء بعد الغلاء, ختم المأساة بالآية الكريمة “وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا”.
أو عند ذكره لنهاية الدولة الفاطمية بعبارة “فسبحان الباقي بعد فناء خلقه”. أو “سنة الله قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلًا” في ذِكره واقعة مماثلة من خراب الديار وشيوع الفوضى وتفكك المجتمع!
كان “ابن إياس” أيضا متصالحًا بعض الشيء مع نهاية قانصوه، طبقا للمقدمات التي رصدها، ولمنهجه التاريخي، لكنه بدا أكثر تأثرًا بنهاية المُقاوم طومان باي التي لم يكن يستحقها.. لم يقف ابن إياس فيما يبدو من سرده عند أمر السلاح المتفوق لصالح العثمانيين – مثلما فعل ابن زنبل – قدر ما استفاض في إظهار تضارب المصالح والصراعات المملوكية!
وطبقًا لروايته، فالغوري لم يدفن جثمانه. فبعد تيقن موته، زحفت عسكر ابن عثمان مهاجمين من كان حول السلطان من أمرائه وخاصته. ويذكر “ابن إياس”: “العثمانية داسوا المصاحف حول السلطان بأرجل الخيول، وفُقِد المصحف العثماني، واختفى جثمان قانصوه”، مرجحًا أنه نهشته الثعالب والنمور! فلم يدفن الغوري فى قبته الضريحية التى أعدها لنفسه بالقاهرة.
ولتلك الرواية دلالة لدى المؤرخ، حيث أن الطواشي الذي وضع أساس البناية لنفسه، قد سلبها منه الغوري بالقوة، وبنى منشأته وقبته الضريحية محلها. وقد طلب من الغوري أن يجعل له بالمدرسة مدفنًا يدفن به حين موته، فرفض الغوري الفكرة، رغم كون المكان بالأساس خاصًا بالطواشي هذا! لكن الأقدار تشاء ألا يدفن بها الغوري، فعُدّ ذلك من العِبَر بحسب تعبير ابن إياس
وقد أبدى المؤرخ ثباتًا تجاه نهاية المماليك لا يمكن تجاهله، فذكر بيتين من الشعر عن مظالم الناس في عصر قانصوه، وخسرانه الدنيا والآخرة. وأنه ومماليكه لم يرعوا مصالح المسلمين، فسلط الله عليهم ابن عثمان!
هكذا الأمر خلاص للذنوب ولأبدان من أبدان!
وأورد أيضًا:
الموقف هنا قد يبدو لوهلته من قبيل اعتدال الراوي ونزاهة الشهادة. لكنه لا يتناسب وفداحة الخسارة، ورنين سنابك خيول المحتل الغريب لا يزال صداه مسموعًا، وتكرر الأمر في أكثر من موقف أثناء سرده، خاصة وأن ابن إياس نفسه يعد من أبناء النسب المملوكي!
لكن البادي أنه كراصد وموثِّق للأحداث، كان يشهد دلائل تهاوي السلطنة، واشتداد أمر الدسائس والاغتيالات والتصارع لاستلاب السلطة، حتى أن السلطان السابق لقانصوه الملقب بالعادل طومان باي – وهو غير الأشرف طومان باي بطل المقاومة المشنوق- فالعادل طومان هذا تولى الحكم لمائة يوم فقط خلال سنة 906 هـ/ 1501م وقد تولى السلطنة بمكيدة وغادرها بمكيدة هاربًا، حتى قبض عليه في حُكم الغوري وأعدم.
حقق الغوري استقرارًا، فقد حكم لمدة ست عشرة سنة، شيد خلالها العمائر الفخمة التي نفخر بها الآن ضمن آثار مصر الإسلامية، لكن ابن إياس يأخذ عليه عدم نفعية العمائر للمسلمين، ويتهمه بالمبالغة في الإنفاق، لكنه يعود ويذكر ضمن مآثر الغوري منشآته وعمارته التى بها نفع للمسلمين!
وقال إن مساوءه أكثر من محاسنه، لكنه في النهاية أقرَّ أن الغوري أعظم الحكام الجراكسة وكونه كفئًا للسلطنة!
ثم تحضر الحكمة الدينية في عبارته:
هكذا الأمر ببساطة! انقضت دولة وجاءت دولة،. والمؤرخ ممسك بريشته يسطر لوحًا محفوظًا..
يمر قرن وتستقر الأمور، ويبدأ عصر جديد يدير فيه المماليك البلاد تحت السيادة العثمانية، فيأتي مؤرخ آخر “الإسحاقي المنوفي” في القرن 11هـ/ 17م, في كتابه “أخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول”.
العنوان ذو دلالة وحده.. فيمن “تصرف” في مصر! هكذا دون أي تجميل أو تهذيب، أقوام تأتي وأقوام تذهب، تتحكم فى مُلك مصر! وقد استتبت الأحوال لبني عثمان في مصر, فعنون تاريخهم بفصل “في ظهور ملوك آل عثمان خلد الله ملكهم إلى آخر الزمان”.. دعم سياسي ورضا وتسليم تام.
ومن المضحك في أمر الرواية – إخضاعها وتبعيتها للسياسة العثمانية – أن “الإسحاقي” لما ذكر واقعة خيانة خاير بك وجانبردي الغزالي للغوري في مرج دابق، عكس الرواية مبرئًا لهما من الخديعة، ذاكرًا أن:
وزادت لهجة “الإسحاقي” عنفًا عند ختم مشهد النهاية، قائلًا:
وأكملها بمدح مفتعل فى عدل سليم العثماني!
نصل للقرن العشرين. تستقر الأمور، ويألف الناس الأشياء من ألفة أيامهم، ويأتينا كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية” لمحمد فريد بك، أحد رموز الحركة الوطنية المصرية، وهو ابن الأصول التركية، متصالحًا تمامًا مع غزو العثمانيين تحت عنوان “فتح مصر ودخولها ضمن الممالك المحروسة”. وبعد ذكر عابر لحروب المماليك والعثمانيين، يقول بتسليم تام خال من الملاحم والمهالك:
الملمح الديني والروحاني ذوا دلالة فى السرد التاريخي وفي التسليم للمقادير، فابن إياس يرى بعد انكسار هجوم طومان باي لخامس مرة في مقاومته البطولية، أن السعد لم يكن حليفًا لطومان، وأنه:
والسلطان سليم تحرك عسكريًا بعد أن دعم جيوشه بالفتاوى الدينية التي تسمح له باستباحة مسلمين آخرين. ورواية المقاومة المملوكية أيضًا لم تخلُ من ملمح ديني، فابن زنبل المتأثر بأمر الغيب والرمز في الرواية، بعد ذِكر تفاصيل بطولات ومقاومة “طومان باي” وواقعة خيانة صديقه حسن بن مرعي، عاد وأورد أن:
وتمضي المواكب بالقادمين، من كل لون وكل مجال.
10 سنوات ساخنة بين “سقوط الخلافة” و”ممالك النار”.. ماذا تغير في صراع الهوية؟ | عمرو عبد الرزاق
مؤلف ممالك النار يكتب في دقائق: ٥ أساطير قتلها المسلسل | محمد سليمان عبد المالك
لهذه الأسباب يخشى الإخوان والأتراك “ممالك النار” | عبد السميع جميل
تاريخ “العناصر المحلية الداعمة” للاحتلال العثماني في مصر والشام | عبد السميع جميل