خاض جمال عبد الناصر تجربة قتالية مباشرة في فلسطين ضابطًا برتبة صاغ في حرب 1948.
كتب جمال عبد الناصر في مذكراته التي تركها بخط يده عن معركة فلسطين: "كنت أفكر فى الحرب نفسها، وأحسست من قلبى أنى أكره الحرب، ليست هذه الحرب التى كنا نخوضها بالذات، ولكن فكرة الحرب نفسها، أحسست أن الإنسانية لا تستحق شرف الحياة إذا لم تعمل بقلبها من أجل السلام".
لكن سطرًا آخر مجهولًا يشير إلى أن عبد الناصر التقى خلال الحرب نفسها مع ضابط سيصبح رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا: إسحق رابين!
وفق فيلم وثائقي حول رابين لخصته رويترز، فقد ألقى مجموعة من الضباط الإسرائيليين والمصريين أسلحتهم، ووافقوا على تناول الغداء معًا ومناقشة آفاق السلام في المنطقة خلال حصار الفالوجة في حرب 1948 نفسها.
حينها، كان رابين قائدًا لقوة النخبة "البلماح". وكان جمال عبد الناصر بين المحاصرين المدعويين.
كانا يجلسان متجاورين، وفق شهادة رابين، الذي قال إن عبد الناصر أخبره أن "الحرب التي نخوضها هي حرب خاطئة ضد العدو الخطأ في الوقت الخطأ".
وثق عبد الناصر اللقاء مع رابين في مذكرات جمعتها ابنته هدى في كتاب بعنوان "60 عامًا على ثورة 23 يوليو". لكنه لم يذكر اسمه، مكتفيًا بوصف "القائد اليهودي الذي استقبلهم بشكل جيد".
ووفق روايات باحثين إسرائيليين "تجدونها في المصادر"، فقد حث إيغال ألون، الذي كان قائد المنظمة اليهودية السرية، الضباط الإسرائيليين على مواصلة تنمية العلاقات مع الضابط المصري "عبد الناصر". لكنه كان اللقاء الأخير.
بعد الحرب، ألقى جمال عبد الناصر باللوم في الأداء العسكري الضعيف على الملك فاروق الذي اعتبره "فاسدًا وخادمًا لبريطانيًا"، وأنه "العدو الصحيح" الذي يجب أن تقوم عليه الحرب الصحيحة، "ثورة يوليو"، في التوقيت الصحيح، "1952".
ووصل عبد الناصر ضمن تنظيم الضباط الأحرار إلى الحكم.
في فيلمه الوثائقي، يقول إسحق رابين إنه تذكر شريكه على مائدة الغداء، وتوقع أن تؤدي إطاحة ناصر بالنظام الملكي في مصر إلى السلام العربي الإسرائيلي.
عبد الناصر في سنتي حكمه الأوليين لم يتطرق إلى قضية فلسطين. لكنه لم يبد أي اتجاه لمواجهة إسرائيل.
في تلك الفترة، شاركت تقارير المخابرات الأمريكية والبريطانية رابين تفاؤله. اعتبرت التقارير أن عبد الناصر "المعتدل" لن يتجنب أي اتفاق محتمل مع إسرائيل.
وفق باحثين إسرائيليين، استشهدوا بالنسخة الإنجليزية من كتاب محمد حسنين هيكل "قنوات السرية"، بدأت تل أبيب في إرسال رسائل ناصر عبر وسطاء مختلفين، أولهم الموفد البريطاني ريتشارد غروسمان، بناءً على طلب بن غوريون، حيث التقى بعبد الناصر في منزل ويليام ليكلاند "عميل للسي آي إيه عمل رسميًا كدبلوماسي أمريكي"، لكنه رفض بدء أي محادثات مع إسرائيل، قائلًا إن أولويته الأولى هي استكمال استقلال بلاده عن البريطانيين.
مع ذلك، قال عبد الناصر لصحيفة لوموند الفرنسية في أغسطس 1954، إن مصر بحاجة إلى السلام للتركيز على القضايا الداخلية، وأن بإمكان واشنطن تسهيل السلام بين إسرائيل والدول العربية،
وفق رواية محمد حسنين هيكل في "القنوات السرية"، رأى العالم اليهودي ألبرت أينشتاين نفسه وسيطًا محتملًا للسلام، من خلال الاتصالات مع محمود عزمي، أحد كبار مستشاري الوفد المصري لدى الأمم المتحدة.
دعا عزمي أينشتاين وهيكل لمأدبة غداء في ديسمبر 1952، حيث طلب منه إخطار عبد الناصر برغبته في العمل كوسيط لتسريع عملية السلام.
وبحسب هيكل، قال أينشتاين إنه لا ينوي لعب دور الوسيط، بل يأمل في زرع أفكار جديدة في أذهان قادة المنطقة.
يقول هيكل إنه نقل الرسالة لناصر ومقربيه، لكنه رفض. مع ذلك، لم يستسلم أينشتاين، فحاول أن ينقل له نفس الرسالة من خلال رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، الذي فشل هو الآخر.
هيكل كتب "القنوات السرية" في مرحلة لاحقة تغيرت فيها المياه" فشدد على رفض عبد الناصر للتواصل مع إسرائيل.
لكن المؤرخ الفلسطيني سعيد أبو الريش، الذي تصفه "الإندبندنت" بـ "خيرة مؤرخي الشرق الأوسط" قال في السيرة الذاتية التي كتبها عن الزعيم المصري، إن عبد الناصر شكل فريقًا سريًا في 1953 كان هدفه التوصل إلى اتفاق سلام، شمل اتصالات سرية في فرنسا استمرت بين 1952-1955، وهي الرواية التي دعمتها شهادات، بينها مائير عميت، الذي خدم لاحقًا كرئيس للموساد، في كتابه وجهاً لوجه (1999) الذي قال إن أعضاء من الجهاز شاركوا في المفاوضات السرية.
الصحفي الإسرائيلي هيزي كرمل يضيف معلومة مهمة: يقول إن المحادثات كانت تدور تحديدًا حول محاكمة المتهمين في "العملية سوزانا" التي تورطت خلالها إسرائيلية بأعمال إرهابية في مصر من أجل منع الانسحاب البريطاني من قناة السويس.
لكن نسخة نيويورك تايمز في 28 نوفمبر 1982، تنقل قول الدبلوماسي الأمريكي إلمور جاكسون، إن الحكومة المصرية طلبت منه في ربيع 1955 القيام بمهمة دبلوماسية سرية تهدف إلى تحقيق تسوية سياسية مع إسرائيل.
ليضيف أنه كان يحرز تقدمًا نحو تنظيم اجتماع لكبار مسؤولي البلدين، بدعم شخصي من عبد الناصر. لكن اندلاع قتال مفاجئ بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة أدى إلى فشل المهمة.
هيزي كرمل يتحدث لاحقًا عن سلسلة لقاءات سرية في أكتوبر 1954، أسفرت عن وثيقة تفاهم إسرائيلية - مصرية من أربع نقاط:
1- التزام الطرفين بالعمل بأفضل ما في وسعهما لمنع الحوادث على الحدود.
2- الحفاظ على خط التواصل (الخط الأحمر) بين الطرفين لحل القضايا في الوقت الفعلي.
3- إنشاء قنوات اتصال مباشرة من خلال ممثليهم في باريس .
4- السماح بمرور البضائع المتجهة إلى إسرائيل عبر قناة السويس، بشرط أن تحمل السفن الناقلة علمًا أجنبيًا.
بعد الاتفاق، وفق الرواية نفسها، وافق ناصر على استقبال مندوب إسرائيلي في القاهرة لدفع المفاوضات تمهيدًا لقمة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه شاريت. شاريت نفسه أكد في مذكراته (1968) أن استعدادات بدأت للقاء سري بينه وبين ناصر.
كل ما سبق يبقى رواية، حتى نعثر في موقع "إرث شاريت" الرسمي على وثيقة رفع عنها السرية حول رسالة منه إلى عبد الناصر، تتحدث عن استقباله لرسالة أسبق من الرئيس المصري، عبر مبعوث خاص في باريس، عبر فيها عبد الناصر عن "رغبته في إيجاد حل سلمي للمشكلة العالقة بين مصر وإسرائيل" و"استعداده للنظر في اتخاذ تدابير لتحسين الوضع الحالي وتخفيف التوترات السائدة"،
لكن شاريت طلب "أدلة ملموسة على تمهيد الأرض لتسوية نهائية مع إسرائيل من خلال تثقيف الرأي العام لتقدير الأهمية الحيوية للسلام معها في الشرق الأوسط.
بعد يوم واحد من تسليم الرسالة السرية، حكمت القاهرة بإعدام قائدي شبكة العملية سوزانا، فأمر شاريت بتأجيل تخضيرات الاجتماع بعبد الناصر.
بعد ثلاثة أسابيع، قتل متسللون من غزة إسرائيليين في مدينة رحوفوت، قالت إسرائيل إن مصر كانت على علاقة بالمتسللين.
وبعد ثلاثة أيام من الهجوم، داهمت قوة من المظليين الإسرائيليين معسكرًا للجيش المصري في ضواحي غزة، مما أسفر عن مقتل 37 جنديًا. ومن هنا توقف خط الاتصال السري في باريس، وبدأت سلسلة من الاشتباكات العنيفة على طول الحدود، حتى اندلع العدوان الثلاثي بمشاركة إسرائيل.
انضمت إسرائيل إلى فرنسا وبريطانيا في حرب السويس 1956، واحتلت سيناء.
ثم انتهت الحرب.. وارتدى جمال عبد الناصر عباءة القومية بشكل أكثر وضوحًا، وتكثفت حملاته ضد إسرائيل، وتوسع استخدام عبارات مثل "تحرير فلسطين" و"استعادة الحقوق الكاملة لشعب فلسطين". وإن كانت المصادر الإسرائيلية نفسها تتحدث عن محاولات إسرائيلية لإجراء محادثات غير مباشرة في 1957 عبر الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد، الذي نقل إصرار بن جوريون على مقابلته.
لكن الرئيس المصري في رسالته الأخيرة إلى هامرشولد قال إنه غير مقتنع بأنه سيعود إلى منزله حيًا لو وافق على حضور مثل هذا الاجتماع.
عادت المحاولات في مناسبات متتالية بقيادة ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، ورئيس يوغوسلافيا جوزيف تيتو، وجواهر لال نهرو، لكن عبد الناصر رفض أي نوع من التواصل المباشر مع إسرائيل، وإن ترك الباب جزئيًا للتواصل المتقطع وغير المباشر.
في عام 1964، أنشأ عبد الناصر، منظمة التحرير الفلسطينية وعين اللبناني المولد أحمد الشقيري، رئيسًا لها.
وفي العام التالي، وزعت وزارة الإرشاد القومي المصرية مواد ضد إسرائيل في أفريقيا بعنوان "إسرائيل، عدو أفريقيا".
في هذه المرحلة، كان عبد الناصر يرى أن الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان؛ الوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين، وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية. والعمل يجب أن يسير جنبًا إلى جنب.
في 5 يونيو 1967، احتلت إسرائيل سيناء وقطاع غزة. وفي مواجهة الهزيمة، سارع جمال عبد الناصر إلى تغيير هدفه الأول في السياسة الخارجية من "تدمير إسرائيل" إلى "إزالة آثار العدوان"، وهي عبارة غامضة لم تحدد ما ينطوي عليه هذا الإجراء وأي الأراضي ستحررها مصر.
وبحسب منتدى الشرق الأوسط، كانت لغة عبد الناصر الغامضة "عمدًا" خيارًا استراتيجيًا مصممًا لتوفير أكبر قدر ممكن من المرونة في التوصل إلى تسوية سياسية مع إسرائيل دون استبعاد الخيار العسكري.
من أجل "إزالة آثار العدوان" شاركت مصر في مداولات الأمم المتحدة بشأن الصراع في 1967 حيث أصرت على انسحاب إسرائيلي كامل إلى خطوط ما قبل الحرب، بالتزامن مع ذلك، أجريت محادثات سرية، وطرح العديد من المسؤولين والوسطاء الأجانب لإنهاء حالة الحرب.
وبينما لم تنضج أي من هذه المبادرات الخاصة لتصبح اتفاقيات سلام كاملة، تكشف الوثائق التي رفعت عنها السرية، عن استعداد ناصر ليس فقط للتوصل إلى تسوية سياسية مع إسرائيل ولكن أيضًا لقبول "ترتيب" على الحدود المصرية الإسرائيلية.
وغالبًا ما جرت المناقشات حول مثل هذه الاتفاقية دون أن يذكر جمال عبد الناصر مصير الفلسطينيين، أو إذا فعل ذلك، فمن خلال التلميح إلى نهج أكثر براجماتية يقدم تعويضات للاجئين بدلًا من إعادتهم،
كما لم يوجه عبد الناصر تهديدات علنية لتدمير إسرائيل خلال هذه المحادثات الخاصة، ونادرًا ما ظهرت في خطاباته العامة في ذلك الوقت.
التحول ظهر واضحًا خلال رد الرئيس المصري على مسودة الاتفاقية التي أعدها جوزيف تيتو للدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 1967، والتي بموجها كان على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها خلال حرب 1967 مقابل إنهاء حالة الحرب وحقوق الملاحة في مضيق تيران وقناة السويس،
وكان من المقرر تجريد مرتفعات الجولان من السلاح، بينما كان من المقرر تقسيم القدس، بما في ذلك البلدة القديمة، على أسس وطنية ودينية، وكذلك كان مقررًا أن يعود قطاع غزة إلى مصر.
على الرغم من أن هذا الشرط الأخير أغلق الغطاء على فكرة الاستقلال الفلسطيني، فقد اقترح وزير الخارجية المصري، محمود رياض، في محادثة مع نظيره الإيطالي في 4 سبتمبر أن الخطة يمكن أن تكون بمثابة أساس لتسوية شريطة ضمان مجلس الأمن الدولي انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل يونيو 1967.
في حين أن خطة تيتو لم يتم طرحها على الجمعية العامة للتصويت بسبب عدم كفاية الدعم، تكرر استعداد عبد الناصر الضمني للتخلي عن القضية الفلسطينية مع الاكتفاء بمصالح مصر المباشرة مرة أخرى بقبوله على مضض لقرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في نوفمبر 1967، الذي أرسى صيغة "الأرض مقابل السلام" باعتبارها حجر الزاوية في المستقبل العربي الإسرائيلي.
وبينما فسر ناصر دعوة القرار لانسحاب إسرائيل "من الأراضي المحتلة في الصراع الأخير" على أنها تتطلب الانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها أثناء الحرب، فقد قبل بتقسيم فلسطين الفعلي ووجود إسرائيل في أراضي 1948.
قبيل وفاته في 28 سبتمبر 1970، بدت سياسة عبد الناصر في فلسطين وكأنها قد اكتملت: من اللامبالاة، إلى الاحتضان الكامل والدعم، إلى فك الارتباط والعودة إلى سياسة "مصر أولاً".
في أواخر يوليو 1970، وافق ناصر على قبول خطة سلام جديدة تبناها وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز، حيث قال لمسؤول كبير في منظمة التحرير الفلسطينية، "سأقبلها. لك مطلق الحرية في رفضها - هذا هو حقك. لكن مهما قررت، لا تنتقدني".
كان رافضًا بالمثل لخطاب فلسطين الناري لأقرانه العرب، وقال أمام قمة عربية عامة في القاهرة قبل أيام قليلة من وفاته: "أنتم تصدرون بيانات ولكن علينا أن نقاتل، إذا كنت تريد التحرير فاصطف أمامنا.. لكننا تعلمنا الحذر بعد عام 1967 وبعد أن جرنا اليمنيون إلى شؤونهم عام 1962 والسوريون في حرب عام 1967".
ناصر والفلسطينيون (منتدى الشرق اللأوسط)
وثيقة رفعت عنها السرية: رسالة شاريت إلى جمال عبد الناصر (إرث شاريت)
الدبلوماسية السرية بين إسرائيل ومصر في عهد عبد الناصر (جامعة تل أبيب)
القنوات السرية: القصة الداخلية لمفاوضات السلام العربية الإسرائيلية “النسخة الإنجليزية” (محمد حسنين هيكل)
ما بين السطور: عبد الناصر سعى إلى اتفاق مع إسرائيل (نيويورك تايمز – 1982)
عندما التقى الخصمان عبد الناصر ورابين على مأدبة غداء (رويترز)