فولفجانج لوتز (3) | كيف ضيعت بروباجاندا ناصر صاروخ قاهر؟ وكيف سقط ثعلب الموساد؟ | مينا منير

فولفجانج لوتز (3) | كيف ضيعت بروباجاندا ناصر صاروخ قاهر؟ وكيف سقط ثعلب الموساد؟ | مينا منير

18 Mar 2021
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

إسرائيل مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في الجزء الأول من الملف (بإمكانك مراجعته عبر الرابط) اختارت إسرائيل فولفجانج لوتز لاختراق مصر بعد صدمتها من ظهور صواريخ قاهر وظافر في عرض عسكري بالقاهرة، وهما الصاروخان اللذان طورهما علماء ألمان. شرحنا لماذا لوتز تحديدًا، وكيف كان اختراق القاهرة سهلًا بالتسلل عبر عيوب نظام جمال عبد الناصر الذي خلق منظومة “نفاق اجتماعي”.

في الجزء الثاني (طالعه من هنا) شرحنا كيف خدع خيرة ضباط الرايخ الألماني؟ وكيف مهد تحالف النازي فون ليرز في مصر مع الحاج أمين الحسيني طريق الإخوان للخلافة في أوروبا.

كيف سقط إذن؟ وكيف دمر عبد الناصر وعبد الحكيم عامر حلم الصواريخ المصري من أجل البروباجاندا؟ وكيف صححت المخابرات الخطأ واستغلت لوتز مرتين؟ هذا ما نعرضه في الجزء الثالث والأخير:


تكشف مذكرات فولفجانج لوتز والوثائق المفرج عنها المزيد عن جوانب الحياة السياسية في مصر آنذاك. ولعل الفصل الأخير الخاص بسقوطه، سجنه وخروجه، لا يقل أهمية عن سابقه من فصول بهذا الصدد.

البداية من سويسرا

بعد نجاح ضابط المخابرات عصام خليل في استدراج المخابرات البريطانية ورجال القصر والإخوان لكشف خليتهم ومؤامراتهم (تحدثنا عنها في مقال سابق هنا)، عهد جمال عبد الناصر له بمهمة توفير سلاح مستقل عن الشرق والغرب، ضمن سباق التسلح المستعر حينها، فكان برنامج الصواريخ المصرية.

نعرف اليوم من وثائق عديدة أن خليل تولى إدارة “القسم الخاص” وبمساعدة شخصية غامضة أخرى تعيش في سويسرا وتُدعى حسن سيد كامل، نجح خليل في توظيف العلماء الألمان.

كان حسن كامل نصف مصري ونصف سويسري. نشأ بين أسرة ثرية بسويسرا فأجاد لغاتها بالإضافة إلى العربية. كما أنشأ شركتين هندسيتين تعملان في مجال صيانة المحركات، وتزوج من إحدى نبيلات الأسر الملكية في أوروبا.

بوسامته، نجاحه الكبير وعلاقاته المتشابكة في العالم، صار حسن كامل أحد أفضل رجال المخابرات المصرية في أوروبا.

وباستخدام شركاته السويسرية، تعاقد عصام خليل مع كبار المهندسين الألمان، بمن فيهم رجال أكبر قسم أبحاث صناعة المحركات في الحكومة الألمانية الغربية، بل ومدير مصانع مرسيدس بينز شخصيًا، لصالح برنامج الصواريخ المصري دون إثارة أي شبهات أو شكوك (وهو أمر مبهر!).

حسن سيد كامل في سويسرا برفقة زوجته الدوقة هيلين

حسن سيد كامل في سويسرا برفقة زوجته الدوقة هيلين

نازيون بين القاهرة وتل أبيب (2): برنامج الصواريخ الألماني في مصر | مينا منير

حلم أتلفته البروباجاندا

لم يكن البرنامج المصري للصواريخ صنيعة مجموعة من “مطاريد ألمانيا”، وإنما مجموعة من خيرة مهندسي ألمانيا، النمسا وسويسرا.

لم يكن أيضًا برنامجًا يهدف لصناعة صواريخ حربية هجومية فقط، وإنما كان جزءًا من خطة لتوطين صناعة المحركات، سواء للطائرات، الصواريخ الحربية أو، مستقبلًا، الفضاء.

أخيراً، لم يكن البرنامج بمنأى عن برامج تماثله، وأيضًا بالاستعانة بمهندسين من نفس الخلفية والمنطقة، يتم تنفيذها في دول أخرى بما في ذلك إسرائيل، حتى أن نفس المهندسين الألمان الذين عملوا على البرنامج المصري التحقوا بعد ذلك ببرامج تطوير الصواريخ في فرنسا، بريطانيا، بل ووكالة ناسا للفضاء (نموذج صاروخ القاهر، الصاروخ V2 Peenemünde، نُقل إلى ناسا).

الصاروخ V2 Peenemünde

نموذج صاروخ القاهر، الصاروخ V2 Peenemünde، نُقل إلى ناسا

خطاب من ألمانيا يطلب الحصول على نسخة من الطائرة التي تم تطويرها في مصر لمتحف ميونخ نظراً لجودتها "كأحد أكثر المقاتلات كفاءةً وتقدماً في زمنها

خطاب من ألمانيا يطلب الحصول على نسخة من الطائرة التي تم تطويرها في مصر لمتحف ميونخ نظرًا لجودتها “كأحد أكثر المقاتلات كفاءةً وتقدمًا في زمنها

هنا نقف عند معلومة تاريخية مهمة: نصحت المخابرات العامة، بحسب الوكيل رفعت جبريل، القيادتين السياسية والعسكرية (جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر) بالاستمرار في التكتم والعمل بسرية.

إلا أن عامر كان يريد البروباجاندا، وناصر رأى أن تجربة الصواريخ سيتم الكشف عنها حتمًا بأقمار المخابرات الأمريكية الصناعية، وبالتالي فإن الكشف عن البرنامج أفضل!

لم يذعن ناصر لتوصية المخابرات فكان الكشف عن صواريخ قاهر وظافر، وهو ما فاجأ إسرائيل وأدى إلى إرسال فولفجانج لوتز وإطلاق عملية Damocles لاغتيال وترهيب العلماء!

لهذا، وصف الوكيل رفعت جبريل ناصر بأنه “صَدّام حسين عصره،” فهو رجل يحب البروباجاندا ولا يستطيع أن يمنع نفسه عنها، على نقيض السادات الذي نجح بسريته إتمام حرب أكتوبر!

رفعت جبريل رئيس دائرة مكافحة التجسس في المخابرات برفقة لوتز

رفعت جبريل رئيس دائرة مكافحة التجسس في المخابرات برفقة فولفجانج لوتز

ما بعد الكشف.. من التجسس للاغتيالات

بوصول فولفجانج لوتز للصورة الكاملة للوضع في مصر، انتقلت مهمته من التجسس للقتل.

فكان يبلغ عن أماكن وعناوين العلماء وعائلاتهم لترسل إسرائيل لهم من عناوين في ألمانيا مظاريف وطرود مفخخة.

كان أول طرد مفخخ قد أُرسِل للعالِم Pilz. رغم توصية المخابرات بعدم فتح المظروف قبل فحصه من متخصصين، إلا أنه أُرسِل من عنوان في هامبورج تعرفه سكرتيرة بيلز جيدًا، إنه عنوان “حميم” لها، ففتحته .. فكانت النتيجة أنها فقدت عينا وعدة أصابع!

سكرتيرة العالم بيلز (يظهر في الصورة) بعد أن فقدت عينها

سكرتيرة العالم بيلز (يظهر العالم بيلز في أعلى الصورة) بعد أن فقدت عينها

تلاه طرد آخر أُرسل لمصنع حلوان على هيئة كتالوجات لقطع غيار من مصنع محركات، فقتل 5 مهندسين وفنيين مصريين وأصاب 5 غيرهم بإعاقات مختلفة.

هنا أوقفت المخابرات المصرية أي تواصل مباشر مع أي طرود دون فحصها بأجهزة متقدمة، وبالفعل أبطلت مفعول عدة مظاريف، وأفشلت الخطة الإسرائيلية، فكان أمام الإسرائيليين خطة بديلة: ترهيب العلماء وأهاليهم خارج مصر.

كشفت المخابرات الإسرائيلية منذ عامين عن إحدى تلك العمليات، حيث خطفت مهندسا ألمانيا من ميونخ ونقلته إلى إسرائيل، ولما خرج الأمر عن سيطرتهم بصورةٍ ما، “قُتِل” بدمٍ بارد ودُفن في صحراء النقب.

تلتها عملية أخرى حاول فيها الإسرائيليون قتل عالم نمساوي وزوجته في ريف النمسا، لكن العملية فشلت.

أما الثالثة فكانت بإرسال عميلين إلى منزل عالم سويسري كان حينها في مصر، فأبلغا أخته بأنهم جاهزون لقتلهم جميعًا إن لم تنجح في إقناعه بالعدول عن العمل في مصر.

هنا أبلغت الأخت أجهزة الأمن السويسرية التي نصبت لهم فخًا ونجحت في اعتقالهم، فوجدت إسرائيل نفسها أمام كارثة سياسية ودبلوماسية مع النمسا، وألمانيا الغربية التي هددت بوقف صفقتيّ سلاح خطيرتين، وسويسرا. فقرر بن جوريون التخلص من رئيس الموساد ككبش فداء.

هنا تحول دور فولفجانج لوتز إلى قاتل مباشر، فاستلم مواد متفجرة وخزنها في مكانين مختلفين بمنزله، وشرع هو في إرسال الطرود المفخخة من عناوين من داخل القاهرة، لكنه لم ينجح إلا في الأولى فقط.

سقوط لوتز

يذكر فولفجانج لوتز أنه على إثر عودته من رحلة سياحية في مطروح بصحبة محافظها، دخل المنزل ليجد رجال المخابرات العامة في انتظاره، ويذكر تحديداً السيد “محفوظ” وهو بالفعل كان رئيس هيئة الأمن القومي (مكافحة التجسس) في الجهاز، وحسن عليش، بالإضافة إلى ضباط آخرين.

أما المعضلة التي واجهت لوتز فكانت المفاجأة: كان الضباط يعرفون تحديدًا أماكن إخفائه لأجهزة الإرسال والاستقبال (داخل كتب محددة في المكتبة)، والمتفجرات (داخل ميزان في الحمام، ضُبط ميكانيكيًا أن ينفجر عند محاولة فتحه إلا أنه لم ينفجر!

لا توفر المصادر المصرية أي معلومة عن طريقة كشف لوتز، إلا أن هناك تفصيلة هامة في مذكرات فولفجانج لوتز قد تكشف ذلك:

حينما تم اقتياده إلى مقر تابع للمخابرات، وُضعت أمامه الأدلة حتى لا يماطل كثيرًا، وكانت الصدمة الثانية أنه من ضمن الأدلة سجل كامل لكل رسائله المشفرة لإسرائيل، سواء بالحبر السري أو باللاسلكي، على مدار الثلاث سنوات الأخيرة. هذا يعني أن المخابرات لم تكشف فقط محتوى المراسلات وإنما امتلكت القدرة على فك الشفرة.

أظهرت التحقيقات أيضًا أن بعض الألمان كانوا يشكون فيه منذ وقتٍ بسبب لكنته المصطنعة.

من هاتين المعلومتين يمكن أن نستنتج أن المخابرات المصرية بدأت في رصد رسائل فولفجانج لوتز وفك شفرتها دون معرفة مصدرها إلى أن بدأت الخيوط تجتمع والشكوك تزداد داخل دائرة الألمان حتى نجح رفعت جبريل أخيرًا في تحديد هوية لوتز.

رجال المخابرات العامة يعلنون القبض على لوتز

رجال المخابرات العامة يعلنون القبض على لوتز

سيحاكم كألماني

قرر لوتز ألا يعاند رجال المخابرات بعد أن واجهوه برسائله وشفرته. إلا أنه قرر أن يظل معروفًا لديهم بهويته الألمانية، لأنهم إن علموا بهوية الإسرائيلية سينقلب الوضع بالكامل.

بقاؤه ألمانيًا يعني الدعم القنصلي الألماني، كما أنه لن يكون بالنسبة لهم صيدًا ثمينًا، فهو أمامهم مجرد ألماني متواطئ مع الإسرائيليين من أجل حفنة دولارات. يأتي ذلك في نفس الوقت الذي تم فيه إعدام إيلي كوهين في دمشق.

قبل المحاكمة يتم إرسال لوتز لملاقاة صلاح نصر، ويدور حديث مثير ينقله لنا لوتز:

صلاح نصر: اسمع يا لوتز، أريدك أن توقع اعترافًا بكل جرائمك الخاصة بالمتفجرات.

لوتز: لن أفعل وأنتم تعنفوني

نصر ضاحكًا: أنت لم تُعامل بعنف بعد يا لوتز، صدقني أنت لا تريد أن تجرب عنفنا.

لوتز: أنت لا تخيفني، وتعرف جيدًا أن ألمانيا سترصد أي محاولات تعذيب بعد وصولي للمحكمة، وأنت لا تريد مشكلات مع ألمانيا.

نصر: صحيح، ولكن ألمانيا لن تعاند القدر، فأقرباؤك اللذين في قبضتنا يمكن أن يموتوا في حوادث مرور، وهو أمر مؤسف.

هنا شعر لوتز أنه لن يستطيع لعب دور الرجل الخشن مع نصر، فأذعن ووقع على الاعترافات.

تتوالى المفاجآت

في المحكمة تنهال على لوتز المفاجآت، ففي الجلسة الأولى يظهر رجال المخابرات رسالة من أحد رجالهم في ألمانيا يعرضها على القاضي، ومفادها أن لوتز إسرائيلي، وفيها تاريخه كاملًا.

لوتز لحظة الكشف عن هويته الإسرائيلية في المحكمة، وقد كانت صادمة لزوجته فالتراود التي لم تكن تعرف

لوتز لحظة الكشف عن هويته الإسرائيلية في المحكمة، وقد كانت صادمة لزوجته فالتراود التي لم تكن تعرف

لقد كانت لحظة كارثية على لوتز الذي أخذ في الإنكار. إلا أن المفاجأة التالية هي لقاؤه بالقاضي والنائب العام في راحة المحاكمة، وكلاهما قال له بخبثٍ: لا تخف لن نقاضيك كإسرائيلي ولن نعتد بورقة المخابرات!

وهكذا نال لوتز حكما بالمؤبد ونالت زوجته حكما بالحبس ثلاث سنوات، رحل على إثرها إلى سجن طرة وهو لا يعرف لماذا قرروا أن يحاكموه كألماني رغم أدلة المخابرات التي فضحته!

في السجن

يحكي لوتز قصة طريفة عن لقائه بمصطفى أمين في سجن طرة. كان أمين قد حوكم في قضية تجسس لصالح الولايات المتحدة انتهى على إثرها في السجن.

هناك كان أمين يبادله النكات والأحاديث اللطيفة. بعد حرب 67 وفي يوم التنحي التقى لوتز بأمين وسأله هل بالفعل تنحى عبد الناصر؟

أمين قال له “اهدأ يا عزيزي ودعك من الهستريا حولك، سيخرج الجموع لمطالبة الرئيس بالبقاء وغدًا سيتراجع نزولًا على رغبة الجماهير..” وقد كان!

خرج لوتز في صفقة تبادل مع إسرائيل، حيث تم استبداله بثلاثة آلاف أسير مصري، الأمر الذي جعله يفهم لماذا أصر الجميع على محاكمته كألماني: فلو كان إسرائيليًا لأُعدم مثل إيلي كوهين، أما كونه ألمانيًا فكان ورقة ضغطٍ وإحراج للحكومة الألمانية الغربية من جانب (حيث تم استخدام اسمه في مناقشة أمور خاصة بصفقات سلاح) وفي نفس الوقت الإبقاء عليه حيًا بحكم مؤبد يسمح للمصريين بعد ذلك باستخدامه في صفقة مع إسرائيل.

أي أنهم أعادوا تدويره مرتين.

لقد كانت مهمة لوتز في مصر كاشفة لإخفاقات و كذلك لحرفية أجهزة ومؤسسات أمنية واجتماعية وسياسية في مصر، تستحق أن نقف عندها كمصريين وأن نتساءل ما الذي يمكن أن نتعلمه في ضوء واقعنا اليوم.

دروس حول خطورة النفاق الاجتماعي على الأمن القومي، خطورة توفير الحماية لأنذال من عينة فون ليرز الذي خان عبد الناصر بتحالفه مع الإخوان تحت مبرر المناورة السياسية،

والأهم من هذا كله أهمية الإنصاف في قراءة التاريخ الذي يكشف نجاحات حقيقية لمؤسسات كالمخابرات العامة بالرغم من إخفاقات مؤسسات سياسية أفسدت مشروعًا طموحًا كمشروع الصواريخ،

كل ذلك يمكن أن نتعلمه وأن نستفيد منه اليوم.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك