عندما جاء بيتهوفن إلى العالم عام 1770م، كان كل شيء حوله يمضي في طريق تغيير اعتقد الجميع أنه سيُعيد صياغة العالم من جديد.
بينما كان بيتهوفن في السادسة، الّف عالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث كتابه "ثروة الأمم"، الذي سيُؤسِّس لنظام تجاري جديد قائم على التجارة والمنافسة.
في العالم الجديد بأمريكا الشمالية، أعلن المستوطنون الأوروبيون انفصالهم عن الإمبراطورية البريطانية، وخاضوا حربًا ضروسًا انتهت بإعلان قيام دولتهم الجديدة؛ "الولايات المتحدة الأمريكية".
وعندما كان بيتهوفن لا يزال شابًا صغيرًا تناهت إلى مسامعه أنباء اندلاع الثورة الفرنسية ضد الملكية، فدعّمها بحماس بسبب روح الثورة التي تفجرت في عروقه وضخّها في كل نغمة بأعماله.
جلبت له روح التمرد الوبال، خاصة أن فيينا (مقر معيشته) كانت تحت الحكم الاستبدادي لآل هابسبورغ، والذين لم يخفِ الموسيقار العبقري عداءه المُطلق لهم بسبب شغفه المُطلق بالحرية. رفض ارتداء ملابس النبلاء كي لا يشعر بانتمائه لطبقتهم، وامتنع عن تصفيف شعره لذات السبب.
رفض العاهل النمساوي فرانز الثاني، التقرّب إلى بيتهوفن معتبرًا أن "هناك شيئًا ثوريًّا في موسيقاه"، فيما آثر الشاعر الألماني جُوته مقاطعة بيتهوفن عام 1812م، بسبب رفضه الانحناء أمام إمبراطورة النمسا!
مع بداية الثمانينيات، وصلت الثورة الفرنسية إلى ذروة نجاحها، نابوليون (معشوق بيتهوفن، والذي أهدى له سيمفونيته الثالثة) أصبح إمبراطورًا على باريس بعدما نشرت جيوشه أفكار الثورة عن الحرية والمساواة في أنحاء أوروبا. حينها اعتبر بيتهوفن، أنه يعيش أسعد أيام حياته، وأن العالم يتشكّل من جديد وفقًا لمبادئه الثورية.
قرّر بيتهوفن أن يُخلِّد تلك اللحظات في موسيقاه متغلبًا على الأمراض التي هاجمت أذنيه، فقضى 3 سنوات يؤلِّف سيمفونيته الخامسة البديعة، التي حرص أن تحمل كل نغمة فيها روحًا ثورية، وعندما استمع إليها قائد الأوركسترا نيكولاس هارنانكورت، قال "هذه ليست موسيقى؛ إنَّها تحريض سياسي. تقول لنا: عالمنا هذا ليس جيدًا. فلنغيِّره!".
يقول غانم الدباغ في دراسته "نزعات إنسانية في موسيقى بيتهوفن"، إن بيتهوفن عُرف بتمرده على ما شاع خلال هذه الفترة من إذلال الأمراء والدوقات للفنانين ولجوئهم إلى قصورهم والتوسل لنيل النفحات منهم. صحيح أن بيتهوفن دخل قصور صفوة أمراء عصره، لكنه لم ينحنِ لأحد ولم يطلب نقودًا من أحد، وإنما قرّر الثورة عليهم بألحانه.
ويضيف الدباغ: يُعتبر لحن افتتاح السيمفونية الخامسة من أروع ما عرفته الموسيقى، ومع أنه يكاد يقتصر على استعمال مختلف الإيقاع لنغمتي (صول، مي) لكنه يعلق بالذهن ويرسخ بها للأبد. فالنغمات الأربع الأولى تتصاعد بشكلٍ زاعق ومستمر ثم تتتالَى بعدها باقي أجزاء السيمفونية، والتي لم تقلّ روعة عن افتتاحيتها.
في مقدمة السيمفونية حاول بيتهوفن نقل إحساسه بالقوة الضاربة للقدر الذي اعتبر أنه انتقاه خطأ بفعلٍ مؤذٍ، ألا وهو المرض. حاول التعبير عن ذلك الشعور من خلال عمله الفذ الذي ولّف فيه بين مختلف المتناقضات الموسيقية بنجاح، في إشارة لأفعال القدر التي تحتوي أحيانًا كثيرة على أمورٍ متضاربة نعجز عن فهمها لكنّها تمتلك ما يكفي من القوة لقلب حياتنا رأسًا على عَقِب، وهو ما دفع النقاد لتسمية تلك المعزوفة بـ"لحن القدر".
استوحى بيتهوفن هذا المطلع من صراخ طائر استمع إليه وهو يتنزه في غابات فيينا، ووصفها صديقه شيندلر في رسالة له بأنها تلخص "كيف يقرع القدر الأبواب".
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، جرى قتال من نوعٍ آخر بين الفريقين المتعاركين على إرث بيتهوفن.
اعتبر هتلر أنه الأولَى بموسيقى مواطنه بيتهوفن، فأعلن أن سيمفونياته تعبّر عن الروح الآرية، واستعانت حكومته بمقطوعاته في الحفلات العامة وفي المدارس، وفي الاحتفالات المهيبة لأعياد ميلاد هتلر.
وعلى الجانب الآخر، استعانت قوات الحلفاء بمقدمة السميفونية الخامسة ضمن حملتها الدعائية الكبرى "V for Victory"، التي بُثت عام 1941م عبر أجهزة الإعلام في كافة أنحاء أوروبا، بدعم ٍمن رئيس الوزراء وينستون تشرشل؛ تمهيدًا لتحرير أوروبا المحتلة من قبضة هتلر.
لاحَظ الإنجليز أن إيقاع مُقدِّمة السيمفونية المكوّن من 3 نقرات قصيرة ثم واحدة طويلة (يُمكن التعبير عنها موسيقيًا بطريقة "نقطة، نقطة، نقطة، شرطة")، كان مساويًا للنبضات التي نحتاجها للتعبير عن الرمز "V" في شيفرة مورس بمعنى النصر، وهي العلامة التي لطالما استخدمها سياسيون عبر التلويح بإصبعيهم الوسطى والسبابة للتعبير عن النصر.
وهو ما فتح الباب لاندلاع واحدة من أكبر المعارك الفنية العابرة للقارات بين الألمان والإنجليز في مختلف بقاع العالم.
اعتبر الحلفاء أن الموسيقى الثورية لموسيقار أفنى حياته معارضًا للديكتاتورية ومناصرًا شرسًا للحريات ستكون خيارًا مثاليًّا لمواجهة الاستبداد النازي، وهو ما داومت أجهزة الإعلام الأوروبية على ترديده طوال سنوات الحرب.
استمرّت إذاعة "بي بي سي" في بثّ هذه المقطوعة بمختلف نشراتها الإخبارية التي كانت تقدّمها بـ34 لغة، كما جعلها الإذاعي البريطاني دوغلاس ريتشي الأغنية الرئيسية لبرنامجه الحماسي الذي اعتاد تقديمه عبر الإذاعة البريطانية لتشجيع الأوروبيين على مقاومة الألمان، وكذلك اهتمّت إذاعات راديو فرنسية محلية ببثّ السيمفونية الخامسة بِانتظام لحضّ الفرنسيين على عدم الاستسلام للاحتلال الألماني لباريس.
حققت هذه الحملة نجاحًا كبيرًا لدرجة اعتُبر معها رفع أصابع اليدين لرسم الحرف "V"، أو عزف افتتاحية السميفونية الخامسة ولو بصفير الفمّ، مُعبِّرٍ عن معارضة النازيين، حتى أن رجال المقاومة الفرنسية كانوا ينشدون هذه المقطوعة وهم يفجرون القطارات لتعطيل حركة القوات الألمانية.
انتشر عزف الرمز "V"، في كل مكان بأوروبا، ضربها الناس بأقدامهم، صفقوا بها بأيديهم، عزفوها نقرًا على الخشب في المصانع والمدارس، وظهرت حتى في الولايات المتحدة، بالرغم من أنها كانت لا تزال على الحياد وقتها، ومن فرط نجاحها لم يستطع جوبلز وزير الدعاية الألماني إنكار مدى انتشارها، لكنه شدّد على أن استعانة الحلفاء بالفن الألماني للترويج لأنفسهم هو أكبر انتصار للنازية.
أصبحت "موسيقى بيتهوفن" رمزًا للصراع بين معسكرين حتى انتهت الحرب بهزيمة الحلفاء، وفي لحظة النصر لم يستطع الحلفاء استبعاد بيتهوفن من الحدث بعدما شاركتهم معزوفته العمليات القتالية لأربع سنوات.
اختار الحلفاء أوبرا "فيديليو" البيتهوفينية (الوحيدة التي ألّفها)، لعزفها في أوبرا برلين، خلال فعاليات الحفل الرسمي لإعلان نصرهم على النازيين
بيتهوفن: أوقات ثورية (ذا نيكست ريزيشن)
السيمفونية الخامسة لبيتهوفن (ميوزيك آند هولوكوست)
السمفونية الخامسة لبيتهوفن ورمز موريس (كميوس)
الموسيقى سلاح نفسي (ميوزيك إكسترا)