فمنذ تعيينه وزيرًا للمعارف سنة 1925، خاض علي ماهر تجربة كبيرة في العمل السياسي يندر أن تتكرّر مرة أخرى في الساحة المصرية.
امتلك علاقة وثيقة بالملك فاروق، وشغل منصب رئيس ديوان القصر، ثم عيّنه رئيسًا للوزراء 1939م، في الوزارة التي احتفظ لنفسه فيها بمنصبي وزير الداخلية ووزير الخارجية.
كان أيضا محطّ ثقة ضباط ثورة يوليو، واختاروه رئيسًا لأول حكومة شُكلت بعد الثورة، ثم عُيّن بعدها لرئاسة لجنتي وضع الدستور الجديد ولتطوير التعليم الجامعي.
أهّلت هذه الثقة علي ماهر للتفاعل مع ثورة يوليو مبكرًا، والقيام بدورٍ هام في أيامها الأولى.
نستعرض تفاصيل هذا الدور عبْر
تمتّع علي ماهر بعلاقة طيّبة مع جماعة الإخوان قبل وقوع ثورة يوليو.
وبحسب كتاب "الإخوان المسلمون" للسيد يوسف، فإن علاقة البنا توثّقت بماهر منذ عام 1937م.
سريعًا ظهر الدعم الإخواني لماهر، فخلال عودته إلى مصر عقب حضوره مؤتمر في لندن، استقبلته حشود إخوانية راحت تهتف بحياته!
وبفضل ماهر، أقام حسن البنا علاقات مباشرة بالقصر، سمحت له بإرسال مذكرات يُبدي فيها رأيه بخصوص بعض السياسات الحكومية، ويقترح تغييرها.
وبحسب كتاب "أمراء الدم" لخالد عكاشة، فإن ماهر سعى لتقوية الإخوان لمحاربة الوفد ودعم نفوذ القصر.
وحتى لحظة قيام ثورة يوليو، استمرّت علاقة ماهر بالإخوان جيدة، جعلت اسمه محل توافق لحظة طرحه رئيسًا للوزراء.
فور قيام ثورة يوليو، أذعن رئيس الوزراء أحمد نجيب الهلالي إلى رغبة الضباط في الإطاحة به، وتقدّم بِاستقالته إلى الملك فاروق، بالرغم من أنه لم يمضِ إلا يومٍ واحد على صدور مرسوم تعيينه، لتكون الحكومة الأقصر عُمرًا في تاريخ مصر.
أغلب المرويات تشير إلى أن الصحفي إحسان عبدالقدوس هو الذي أشار على ضباط الثورة بالاستعانة بعلي ماهر رئيسًا للوزراء، لكن القيادي الإخواني صلاح شهدي يقول في مذكراته إن الإخوان هُم مَن رشّحوا ماهر للمنصب.
يُمكن التوفيق بين الروايتين، في أن الإخوان "لم يرفضوا" تعيين علي ماهر رئيسًا للوزراء، بسبب علاقتهم الجيدة معه.
وحينما عُرض على علي ماهر رئاسة الوزراء، وافق بعدما اشترط الاستعانة بوزراء سبق له العمل معهم في "الحكومات الملكية"، وهكذا تضمّن تشكيل أول حكومة ثورية من 10 وزراء، 7 منهم سبق لهم العمل في حكومات سابقة.
في هذه الفترة، لم تكن الملكية قد أُلغيت بعد، لذا أُعلن تشكيلها بموجب مرسوم ملكي، حمل اسم الملك أحمد فؤاد الثاني، بدلاً من الملك فاروق الذي أُزيح به من عرشه.
وكان اختيار علي ماهر نذير شؤوم على الوفد، حزب الأغلبية، بسبب تاريخ العداء الطويل الذي جمع بين الرجل وبين مصطفى النحاس طوال الحقبة الملكية.
جميع القرارات الشهيرة التي تُنسب إلى الثورة، حملت توقيع حكومة علي ماهر، مثل قرارات إلغاء الرتب والألقاب المدنية، والعفو عن المتهمين بالعيب في الذات الملكية وغيرها.
لا يُمكن نسب فضل هذه القرارات له وحده، فجميعها صدرت، بلا شك، تحت تأثير من رجال الثورة، أما الاتجاه الذي سار فيه علي ماهر وحده، ونجح في جرِّ الضباط إليه لاحقًا فهو إنهاء التجربة الحزبية في مصر.
بحسب كتاب المؤرخ عبدالعظيم رمضان "الوثائق السرية لثورة يوليو"، فإنه بعد مرور أسبوعين على توليه رئاسة الوزراء أعرب علي ماهر عن رفضه لعودة الحياة النيابية إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
أصدر ماهر بيانًا، اعتبر فيه أن الحزبية منعت الدولة من الاستعانة بالخبراء في السياسة والاقتصاد، وأن حالة عدم الاستقرار السياسي التي عرفتها مصر عطّلت مطالب الاستقلال وعجزت عن حل مشاكل البلاد.
كما نادَى علي ماهر بضرورة "تطهير الأحزاب"، وهو المطلب الذي شاع لاحقًا على ألسنة ضباط الثورة، واعتبروه شرطًا للسماح بعودة الحياة الحزبية إلى طبيعتها مُجددًا.
وفي 10 أغسطس، نشرت جريدة الأهرام أن "علي ماهر، منهمك في وضع مشروعات ثورية ستؤدي إلى تحويل تام في كيان مصر الاقتصادي والاجتماعي".
يروي محمد نجيب في مذكراته، أن الخلاف الأول الذي جرى بين الثورة وعلي ماهر انصب حول مصير الانتخابات النيابية الجديدة.
اتفقوا مع ماهر على إجرائها في فبراير 1953م، لكنّه فضّل الإعلان عن تنظيم الانتخابات دون تحديد موعد.
وهو ما أغضب مجلس قيادة الثورة، فأصدروا بيانًا يردّ عليه.
يقول نجيب: إزاء هذه الأزمة، اختار علي ماهر الصمت، وهو نفس ما فعلناه، فلم نحاول أن نزيدها اشتعالاً.
بحسب نجيب، فإن العلاقات بين الطرفين عادت للتوتر من جديد بسبب رغبة الضباط في إعادة تشكيل حكومته، والإطاحة بكل رموز "العهد البائد" منها.
رغم هذا، لم تصل الأمور إلى حدِّ القطيعة بين الطرفين إلا لحظة طرح قانون تحديد الملكية الزراعية.
فبعدما عرض عليه ضباط الثورة مسودة القانون، لم يُبدِ له حماسًا كبيرًا، وتلكأ في إصداره بسبب رغبته في إقرار قانون يفرض ضريبة متصاعدة على الأغنياء بدلاً منه.
رفض مجلس قيادة الثورة هذا الاقتراح، وأصرّوا على تمرير القانون رغم أنف ماهر، فتقدّم باستقالته بعد شهر ونصف فقط على تسلّمه الوزارة.
وصرّح ماهر بعد الاستقالة "أنه يرى الوقت أصبح مناسبًا لأن تجتمع السُلطة في يد واحدة"، وذلك في إشارة منه إلى التشكيل الوزاري التالي، والذي ترأّسه قائد الجيش محمد نجيب بنفسه.
وكان أول قرار لها هو القبض على 74 رجلاً من رموز الحياة السياسية المصرية، أبرزهم: فؤاد سراج الدين، وإبراهيم عبدالهادي وآخرون.
في 1953م، عُيِّن علي ماهر رئيسًا للجنة شكّلها مجلس قيادة الثورة لوضع دستور جديد "يتفق مع أهداف الثورة".
عُرفت هذه اللجنة تاريخيًا بلجنة الخمسين، وأنجزت مهمتها خلال عامٍ ونصف، قدّمه بعدها ماهر لمجلس قيادة الثورة، فلم يلتفت إليه أحد! وفيما بعد اختفت نسخته وكافة مضابط جلسات إعداده حتى ظهر لاحقًا على يدي الصحفي صلاح عيسى، الذي أعاد نشره في كتابه "دستور في صندوق القمامة".
على أية حال، كانت لجنة الدستور آخر عهد علي ماهر بالسياسة، آثَر بعدها العيش في عُزلة حتى مات 1960م.
علي ماهر، رشوان جاب الله (كتاب)
الصراع السياسي والاجتماعي في مصر منذ قيام ثورة يوليو 1952م وحتى نهاية أزمة مارس 1954م ، عبدالعظيم رمضان (كتاب)
ثورة 23 يوليو، عبدالرحمن الرافعي
حصاد العُمر: صفحات من التاريخ، صلاح شادي