لعقود ظل دور الكونغو في تصنيع القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناجازاكي مغلفًا بالأسرار. لكن إرثها مازال محسوسا حتى اليوم. سوزان ويليامز، المؤرخة في معهد دراسات الكومنولث البريطاني، تقول إن كلمة "شينكو لوبوي" تبقى مصدرًا للحزن والأسى.
شينكو لوبوي هو اسم منجم صغير يقع في مقاطعة كاتانغا الجنوبية بجمهورية الكونغو، لعب دورًا مهمًا في أحد أكثر الأحداث عنفا ودموية في التاريخ الحديث. كان تقريبا مصدر كل اليورانيوم المستخدم في مشروع مانهاتن الذي أنتج القنابل التي ألقيت على اليابان في الحرب العالمية الثانية.
لكن قصة المنجم لا تقف عند دوره في صنع القنبلة.
في 1915، وبينما لا تزال الكونغو تحت الحكم الاستعماري البلجيكي، اُكتشف أكبر خط غني باليورانيوم داخل منجم شينكو لوبوي، لكن الطلب عليه حينها كان قليلًا، ولم يعر أحد اليورانيوم أي انتباه. حتى أن اسمه في الألمانية يعني الصخرة التي لا قيمة لها،
لكن بعد تمكن عالمة الفيزياء ماري كوري وصديقها الألماني بيير عام 1938 من اكتشاف الانشطار النووي، ظهرت أهميته القصوى للعالم. حينها اتجهت الأنظار إلى شينكو لوبوي. أصبح المصدر الأهم لليورانيوم. احتكرت بلجيكا حق التعدين فيه بواسطة شركة يونيون مينيير.
بعد اكتشاف الانشطار النووي، نصح ألبرت أينشتاين الرئيس الأمريكي روزفلت بأن العنصر المكتشف حديثًا بواسطة كوري وبيير يمكن استخدامه لتوليد كمية هائلة من الطاقة، وفي 1942 قرر الاستراتيجيون الأمريكيون شراء أكبر قدر من اليورانيوم ليبدأ مشروع مانهاتن. والكونغو كانت وجهتهم المفضلة.
يقول توم زولنر مؤلف كتاب "الحرب والطاقة والصخرة التي شكلت العالم"، إن منجم شينكو لوبوي، يمكن أن نصفه بأنه نزوة من الطبيعة، لا يوجد مكان آخر مكتشف على الأرض في ذلك الوقت يحوي كل تلك الكمية من اليورانيوم بهذه الدرجة من النقاء. يكفي أن تعرف أن المناجم في الولايات المتحدة وكندا بإمكانها إنتاج خام اليورانيوم من تلك الصخرة بنسبة 0.03% بينما في منجم شينكو لوبوي بنسبة 65%.
تفاوضت بريطانيا مع شركة يونيون مينيير البلجيكية لشراء حصة في الشركة، وبالفعل نجحت المفاوضات. استطاعت بريطانيا امتلاك 30% من حصة الشركة، واشترت الولايات المتحدة حوالي 1,200 طن من اليورانيوم الكونغولي، وخزنت الكمية في جزيرة ستان، وبعدها اشترت 3000 طن آخرين تم تخزينها بجانب المنجم نفسه "شينكو لوبوي". الكميات التي حصلت عليها لم تكن كافية، فساهمت أمريكا بإرسال مهندسيها الذين شاركوا في تحسين إنتاجية المنجم.
يقول إسحق مومبيلو، رئيس المجتمع المدني الكونغولي في جنوب أفريقيا، إن منجم شينكو لوبوي قرر من سيكون الزعيم المقبل للعالم. كل شيء بدأ من هناك.
وفقًا لـ"بي بي سي" بدأ المشروع الأمريكي سريًا للغاية حتى لا تنتبه قوى المحور لوجود مشروع مانهاتن، إضافة إلى ذلك، جرى محو المنجم من الخرائط وإرسال جواسيس إلى المنطقة لزرع معلومات مضللة عمدًا حول ما يجري هناك، وسمي اليورانيوم باسم "الأحجار الكريمة" أو المواد الخام، بينما لم يتفوه أحد مطلقا بكلمة "شينكو لوبوي".
حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حظي العمل في المنجم بسرية تامة لفترة طويلة، وكانت تبث رسائل مضللة مفادها أن الولايات المتحدة استطاعت التحصل على اليورانيوم من كندا. تقول "بي بي سي": الجهد الذي بذلته أمريكًا للحفاظ على سرية العملية كان شاملًا للغاية، لدرجة أن الاعتقاد أن القنبلة الذرية صنعت بالفعل من اليورانيوم الكندي إلى يومنا هذا.
رغم تحسن تقنيات تخصيب اليورانيوم في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية وقلة الاعتماد على منجم شينكو لوبوي، إلا أن أمريكا عملت بكد من أجل الحد من الطموحات النووية للدول الأخرى، لذا كان لابد من السيطرة على المنجم للأبد. تقول ويليامز: "رغم أن الولايات المتحدة لم تعد في حاجة إلى اليورانيوم إلا أنها لم تكن تريد للاتحاد السوفيتي من الوصول إليه".
وحين حصلت الكونغو على الاستقلال عن بلجيكا في 1960، أغلق المنجم بالخرسانة، لكن ذلك لم يكن كافيًا. القوى الغربية أرادت التأكد من أن أي حكومة تترأس الكونغو ستظل صديقة لها.
يضيف مومبيلو: حرصت الولايات المتحدة والدول القوية على التأكد من انعدام قدرة أي دولة على الاقتراب ناحية الكونغو. من أراد قيادة الكونغو عليه أن يكون تحت سيطرتهم.
وفقا لـ"زولنر"، أرادت أمريكا إيقاف التهديد الشيوعي، لدرجة أنها كانت على استعداد للإطاحة بحكومة باتريس لومومبا المنتخبة ديمقراطيًا وتثبيت موبوتو سيسي سيكو في 1965. أطيح بموبوتو في نهاية المطاف لكن شبح شينكو لوبوي لا يزال يطارد جمهورية الكونغو الديمقراطية.
بعد انتهاء الأعمال الأمريكية بدأ عمال المناجم الكونغوليون في الحفر بشكل غير رسمي في الموقع وحول أعمدة المناجم المغلقة. بحلول نهاية القرن الماضي كان هناك ما يقدر بنحو 15,000 من عمال المناجم وعائلاتهم بالقرب من شينكو لوبوي يحفرون في سرية دون حماية ضد الخام المشع.
في 2004 قتل ثمانية منهم وأصيب 10 آخرين بعد انهار الممر. ولأجل مخاوف من تهريب اليورانيوم من الموقع لجماعات إرهابية أو دول معادية قام الجيش الكونغولي بتدمير قرية عمال المناجم في نفس العام. وبعد حادث فوكوشيما النووي عام 2011 تلاشت أي مصلحة في استخراج اليورانيوم للاستخدام المدني ودخل في طي النسيان.
والعديد من السجلات الرسمية الأمريكية والبريطانية والبلجيكية حول هذا الموضوع لا تزال سرية حتى اليوم، وهو ما عرقل التحقيق في الآثار البيئية والصحية للمنجم. يقول مومبيلو لا نعرف حتى الآن الأثار السلبية للإشعاع بسبب تلك السرية، وتكثر القصص عن الأطفال الذين ولدوا يعانون من تشوهات جسدية.