باحث بجامعة لوزان - سويسرا
قد تستغرب أن هناك رابطا تاريخيا خاصا جدًا بين مقاطعة فو (Vaud) في سويسرا، وتحديدًا عاصمتها لوزان، بالعاصمة المصرية القاهرة.
ولأن الأقدار جعلت قاهريا مثلي يعيش بين المدينتين، كانت خبرة الالتقاء بتاريخ مصر الحديث هنا مدعاة لدروس لعلنا نتعلم منها اليوم.
أول ما رأيته حينما وصلت منذ أعوام، محل أنتيكات، من محلات كثيرة منتشرة في لوزان، تمتلئ بنياشين ملكية مصرية.
يتراوح سعر النيشان بين 100 فرانك “حوالي 100 دولار” وصولًا إلى 450. بالإضافة إلى حليّ وسيوف تتزين بأسماء ورموز العائلة الملكية.
كلما مررت على هذا المكان لاحظت أن النياشين والعملات التي يعود بعضها لعهد الخديوي إسماعيل تتغير، مما يعني أنها بيعت على الأرجح.
غالبني الفضول ودخلت المحل لأسأل عنها. وبحجة أنني أتساءل إن كانت أصلية، قال لي التاجر السويسري إنه يمكن أن يوفر شهادات توثق أصولها “إن كنت أنا جادا في الشراء”.
اللطيف أن الرجل رحب بحديثه معي حينما عرف أني أكاديمي ومصري، ولست مجرد متصعلك يقتل وقته.
قال لي إن لديهم كما كبيرا منها، حصلوا عليها في الخمسينيات والستينيات تباعًا من أصحابها.
بالطبع لم يقُل لي من هم تحديدًا لسرية العملاء. لكن حينما تحدثنا عن الثورة، قال لي ما مفاده إن عائلته كانت تشتريها بأثمانٍ معقولة، ولكن بغرض مساعدة أصحابها ماديًا.
يحضرني في هذا الصدد مشهد فيلم الأيدي الناعمة، وفيه كان الأمير أحمد مظهر يبيع نياشينه على عربية البسبوسة لكي يأكل.
تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير
على الجانب الآخر من ذلك المحل المطل على بحيرة جنيف (Lac Léman) كان هناك حدث آخر. ففرنسا تقع على الضفة الأخرى من البحيرة، وتحديدًا مدينة Évian الشهيرة بالمياه المعدنية.
اسمها الكامل حمّامات إيفيان (Évian-les-Bains) لأنها شهيرة بشلالات وحمامات رومانية دافئة يؤمها الأرستقراطيون منذ زمن بغرض الاستجمام.
أحد سكان تلك المدينة هو النحاس باشا الذي كان يسافر بصحبة فؤاد باشا سراج الدين لمنزله المطل على البحيرة سنويًا للاستجمام، وفي إحدى تلك الرحلات وصله نبأ قيام الجيش بحركة سيطرت على مفاصل البلاد. حينما اقتحم عليه سراج الدين خلوته ليخبره بالأحداث قررا عبور البحيرة إلى لوزان ومنها إلى مطار جنيف، لمواجهة بداية النهاية.
أما على الجانب الغربي من لوزان فهناك مدينة صغيرة شهيرة تُدعى Montreux. في تلك المدينة الخلابة وقع وفد مصري معاهدة مونترو، تحديدًا في 8 مايو 1937، والتي ألغت الجانب الأصعب والأخطر من منظومة الإمتيازات الأجنبية التي كانت تعطي الأجنبي في مصر حصانة تقيه من المحاكمة أمام الهيئات القضائية المصرية بغض النظر عن شناعة جريمته.
قد لا أبالغ القول أن معاهدة مونترو لا تقل في أهميتها عن معاهدة 36 لأنها غيرت الوضع على الأرض في مصر بالنسبة لسلوك الجاليات الأجنبية اجتماعيًا واقتصاديًا.
لقد كان ارتباط تلك المنطقة بمصر ليس فقط من خلال الملابسات التاريخية ولكن ثقافياً، فكان أفراد الأسرة العلوية في مصر منذ الخديو إسماعيل يأتون إلى لوزان بغرض العلم، وقد استثمروا فيها واستلهموها في معمارها المعروف بالـ Art-Déco، والذي يختلف كثيرًا عن الجانب الألماني اللغة في سويسرا (بيرن-زيورخ إلخ). لم أكن أعرف بأن الملك فؤاد الثاني وأسرته يعيشون فيها إلى يومنا هذا.
جريفل وين – أوليج بنكوفسكي | الجاسوسان اللذان أنقذا العالم من “يوم القيامة النووي” | مينا منير
في إحدى أيام الشتاء، كنت أسير وسط محلات لوزان الراقية، والتي يتبضع منها أثرياء العالم الذين يمكنهم شراء ساعات سويسرا التي تتجاوز سعر الواحدة منها مرتّبي في الجامعة لمدة عام.
في وسط تلك المحلات، وجدت محلًا ضخمًا بلافتة أعرفها كما يعرفها كل مصري جيدًا: باتا!!
هل هو تشابه أسماء؟ لا، إنها نفس العلامة المسجلة بشكلها المعروف ونفس المنتج! باتا؟ التي نتندر على جودتها في مصر ونسخر منها. هنا تبيع أحذية يتجاوز سعرها 300 دولار؟!
دفعني الفضول لتتبع أصل القصة.
كان مؤسس تلك المحلات هو توماش باتا، صاحب ورشة جلود “مدبغة” في براغ بتشيكوسلوفاكيا سابقًا.
بدأ الرجل الطموح بإنتاج أحذيته في محل صغير، تحول إلى محل ومصنع، وكان ناجحًا، حتى خسر كل أمواله في الحربين العالميتين المتتاليتين ولم يبقَ له إلا فرع صغير في مدينة لوزان في سويسرا.
لكنه فضّل الانتقال إلى مصر على سويسرا وهناك أسس شركته.
وبسبب سياسته التي شملت كل مفردات السوق الحر من المنافسة، العمولة على البيع بالنسبة للموظف الذي لا يكتفي بمرتبه فقط وغيرها نجح الرجل في الوصول بالشركة لأكثر من 120 فرعاً. كما أسس مصنعه الضخم في الإسكندرية بالإضافة إلى مصنع آخر في الخرطوم، وكانت خطوط إنتاجه تغذي أوروبا وتدرّ العملة الصعبة.
كاد الجاسوس أن يكون رسولا: أوليج جوردييفسكي كشف استعداد اشتراكيين لخيانة أوطانهم | مينا منير
بعد قيامة الثورة، وجدت باتا ككثيرين أن قانون الإستثمار الأجنبي الذي وُضِع لتنظيم حركة الاستثمار المباشر في مصر في سبتمبر 1953 ليس سيئًا؛ فاستمر الرجل من مصر كنقطة انطلاق لأوروبا.
في 1961 أطلق جمال عبد الناصر جمهوريته الإشتراكية فعليًا، والتي عبر عنها بالميثاق، وفي أبريل قام بموجة تأميمات عنيفة تغطي على البؤس الاقتصادي المتزايد فيما عُرف بقانون الحراسات، بين ليلة وضحاها وجدت باتا نفسه عائدًا للنقطة صفر وخسر كل شيء، بعد أن آلت ملكية شركته في مصر للدولة وصارت باتا “الشركة المصرية للأحذية” والمعروفة منذ وقتها إلى اليوم بالرداءة والرثاثة.
أما باتا، فقد تلقفته لوزان وعرضت عليه ما عرضته على رجال صناعة القطن السويسريين الذين هجروا الإسكندرية بخبراتهم الكبيرة في تلك الصناعة بسبب التأميم: ضرائب دخل أقل من الدول المحيطة، تسهيلات للإنتاج والبيع عبر الحدود، وتأمين على خطوط إنتاجه مجاني.
كانت النتيجة أن توماش باتا قد بدأ بمكتبه الصغير في لوزان ليصير مقرًا مركزيًا لشركة الأحذية الأكبر في سويسرا وواحدة من كبريات شركات الأحذية في العالم بأكثر من 5,000 فرع في 70 دولة وخطوط إنتاج في 18 دولة، وأكثر من مليون زبون يوميًا.
هل تسبب الرأسمالية الفقر كما يقول شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان؟ | س/ج في دقائق
كما قلنا، لم تكن قصة باتا استثناءً، فرجال الصناعة السويسريون في الإسكندرية نقلوا صناعة القطن كما هي بكل خبراتها إلى سويسرا، وفي لوزان قاموا بتأسيس أول بورصة أقطان من نوعها في أوروبا، على شاكلة بورصة القطن المصرية، وكانوا معروفيين بالسويسريين المصريين (أو المتمصرين)، فصارت مقاطعة Vaud مركزاً لتجارة الأقطان في أوروبا منذ وقتها.
ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق