جريفل وين – أوليج بنكوفسكي | الجاسوسان اللذان أنقذا العالم من “يوم القيامة النووي” | مينا منير

جريفل وين – أوليج بنكوفسكي | الجاسوسان اللذان أنقذا العالم من “يوم القيامة النووي” | مينا منير

18 Jul 2021
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

إذا أتاك ثلاثة رجال، أحدهم جاسوس خطير، هل تستطيع كشفه؟

ما رأيك أن تجرب ذلك بنفسك؟

المقطع التالي من برنامج مسابقات أمريكي شهير في الستينيات.

يظهر في الحلقة ثلاثة رجال يدعي كل واحدٍ منهم أنه الجاسوس جريفل وين (Greville Wynne). وسيحاول المتسابقون من خلال طرح الأسئلة على الثلاثة كشف أيهم جريفل وين الحقيقي.

شاهد معي المقطع:

حسنًا. كما رأيت، صوت المتسابقون لـ جريفل وين الحقيقي والمزيف بالتساوي فقد كان الأمر محيرًا بالنسبة لهم. 

ماذا عنك؟ هل نجحت في تخمين أن جريفل وين الحقيقي هو ذلك القصير ذو الشارب الرفيع؟ 

لماذا إذن كان الانقسام؟ 

إليك بعض الإرشادات من كتيب الإرشادات الخاصة بالتحقيق مع العملاء، الصادر عن المخابرات الأمريكية في الستينيات.:

أولًا: حينما تحقق مع جاسوس فإنك لا تكشفه بالضرورة من خلال اختبار معلوماته. 

كما لاحظت، فالشخص المزيف لم يعرف الإجابة عن سؤال طرحه أحد المتسابقين. ولما جاء وقت التصويت، اعتبر المتسابق عدم الإجابة جهلًا لا يليق بجاسوس، وبالتالي لم يصوت له. بينما اعتبره متسابق آخر خُبثًا يستحق عليه أن يعتبره الجاسوس الحقيقي. 

كاد الجاسوس أن يكون رسولا: أوليج جوردييفسكي كشف استعداد اشتراكيين لخيانة أوطانهم | مينا منير

إذًا، ما الذي يمكن أن يدل على حقيقة الجاسوس؟

رد فعله أثناء الأسئلة.

يتدرب الجاسوس على إجادة استخدام عينيه بثقة شديدة. فإن لم يكن جاسوسًا محترفًا، بل مجرد مندوب أو عميل لمهمة محددة، يتدرب على  تجنب تلاقي الأعين المباشر في مطلع الإجابة. ويا حبذا أن يشتت ويُضعف المحقق بالرد عليه بأسلوب يشككه في نفسه. 

بالمقابل، ليضمن المحققون إخضاع أعين العميل لمراقبة مكثفة، يضعونه أمام كشاف قوي لتضييق حدقتيّ عينيه ومراقبة حركتهما، مع إخفاء ملامح المُحقق في الظلام. 

يمكنك ببساطة أن ترى ذلك حتى في الأفلام العربية والأعمال التي تشرف عليها المخابرات، مثل مشهد تحقيق ضابط المخابرات محيي (فريد شوقي) مع العميلة (بوسي) في فيلم إعدام ميت،

حيث يسلط على وجهها كشاف (في الحقيقة يكون أشد من هذا بكثير)، وكلما أشاحت بوجهها يرفعه مجددًا ويطرح عليها السؤال، وبسهولة يكشف من حركة الأعين كذبها كما في التسلسل التالي:

كشاف1

كشاف2

كشاف3

هذا تحديدًا ما يكشف جريفل وين الحقيقي عن المزيف. فالاثنان المزيفان ركزا بأعينهما على أعين المتسابقين؛ لأن الغريزة الطبيعية تدفع الكاذب لمراقبة الضحية بشدة ليستشف إن طلت عليه الكذبة أم لا.

أما الجاسوس الحقيقي فيتعامل بهدوء وبطبيعية متجنبًا برشاقة تلاقي الأعين، وفي نفس الوقت الدفع بتعليقات مثل: “كان عليك أن تقرأ كتابي أولًا” ليهتز من أمامه. 

وين الحقيقي بعد انتهائه من الإجابة فقط يرفع عينيه صوب المتسابقين

وين الحقيقي بعد انتهائه من الإجابة فقط يرفع عينيه صوب المتسابقين

جريفل وين المزيف الأول (بعد انتهائه من الإجابة فقط يرفع عينيه صوب المتسابقين) يحدّق باضطراب

جريفل وين المزيف الأول يحدّق باضطراب

جريفل وين المزيف الثاني يحدّق بثبات طوال الوقت

جريفل وين المزيف الثاني يحدّق بثبات طوال الوقت

إذاً من هو جريفل وين وما سر ظهوره في هذا البرنامج الترفيهي بطبيعته؟ هذا ما يتناوله فيلم The Courier المعروض في السينما حاليًا

خلية تجسس هارفارد | الصين تحاول اختراق أمريكا من خلال علماء وأكاديميين | س/ج في دقائق

جريفل وين هو مهندس ورجل أعمال إنجليزي، يرأس مجموعة شركات استيراد وتصدير ماكينات ثقيلة في لندن.

شاءت الأقدار أن يجد نفسه وسط أخطر عملية تجسس في تاريخ الحرب الباردة، حيثُ طلب جهازا المخابرات البريطانية والأمريكية أن يستغل رحلات البيزنس التي يقوم بها للاتحاد السوفييتي من أجل إيصال وثائق خطيرة من قلب موسكو إلى لندن.

بفضل تلك الوثائق، فإن العالم لا يزال قائمًا كما نعرفه اليوم! 

أوليج بنكوفسكي

بينما يركز الفيلم على جانب جريفل وين من العملية المخابراتية، إلا أن البطل الحقيقي وراء كل ذلك كان شريكه على الجانب الروسي، أوليج بنكوفسكي (Oleg Penkovsky)، الذي ستعرف عنه المزيد، ولماذا ندين له بالكثير، في هذا المقال.

بنكوفسكي كان أحد أبطال سلاح المدفعية في الحرب العالمية الثانية. سليل عائلة عسكرية عريقة، وحاصل على أعلى أنواط الحرب. تم ترشيحه للعمل في جهاز المخابرات الروسي، وتحديدًا فيما يُسمى بالقسم الخاص. هذا القسم هو المسؤول عن التجسس على التكنولوجيا، التسليح والصناعات الغربية. 

إحدى أهم أدوات التجسس هي استخدام شركات صناعية كبرى كتمويه (Camouflage)، حيث تعقد تلك الشركات لقاءات واتفاقيات تعاون مع شركات غربية كبرى، وتتبادل الزيارات مع وفودها، وفي نفس الوقت تقوم بالتجسس عليهم وتجنيد بعضهم. 

نظرًا لخطورة هذا القسم في المخابرات (وهو المعني بمراقبة التقدم العلمي والصناعي في الغرب) فإن قياداته كانت من الدائرة المقربة لرئيس الاتحاد السوفييتي، وأعلى قيادات الحزب الشيوعي.

لذلك، كان بنكوفسكي يشغل منصبًا حساسًا يسمح له الاطلاع المباشر على أفكار، سياسات ونوايا رئيس الدولة، خورتشوف.

كلما تدرج بنكوفسكي في المناصب، كلما انكشف له أن حلم الشيوعية الوردي ماهو إلا ما أسماه بـ “الكذبة الجماعية” التي يحصد فيها دعاة المساواة كل أحلام الناس.

ومع أسفاره العديدة من خلال مهمته كرئيس لإحدى الشركات غير الحقيقية، كان يرى نسق الحياة الغربي الودود.

يقول بنكوفسكي في أوراقه إنه لا يوجد شيء يمكن أن يبرر الرثاثة التي يعيشها أفراد المجتمع الاشتراكي في محالّهم وأشغالهم: انعدام للجمال، وانعدام للحرية باسم المصلحة العليا والهدف القومي (national cause) حوَّل المجتمع لشعب متجهِّم، عابس، ويعاني من جنون الشك (paranoia).

“أهذا ما كنا نموت من أجله وسط ثلوج أوكرانيا ومستنقعات بولندا؟ أهؤلاء من يستحقون أن تفنى أعمارنا من أجل خلودهم؟” يتساءل بنكوفسكي الذي بلغ به الأمر للبحث عن وسيلة لإنقاذ شعبه من براثن الشيوعية. 

إلى هنا لم يكن هناك ما يستدعي تحركًا راديكاليًا.

إلا أن الوثائق تظهر أنه في مطلع 1961، حصل على معلومات تؤكد على أن خورتشوف وضع خطة يريد بها الاستيلاء على العالم من خلال إطلاق حرب نووية شاملة من جبهتين، حيث سيضرب في نفس الوقت أوروبا بصواريخ نووية من قاعدة في ألمانيا الشرقية، بالتزامن مع هجوم نووي على أمريكا من قاعدة سرية يبنيها في كوبا. 

حينما تأكد بنكوفسكي أن العملية تحت الإعداد بالفعل، وأن قيادات عسكرية تم نقلها، مع جلب قيادات جديدة من صقور الحزب الشيوعي لخدمة خورتشوف، شعر بنكوفسكي أن الوقت حان لإيقاف هذا الجنون الذي سيدمر العالم. 

سقوط الجاسوس إيلي كوهين.. أدلة جديدة تؤيد الرواية المصرية

بنكوفسكي ينقذ العالم

قرر بنكوفسكي أن يتواصل مع أمريكا لإبلاغها بنوايا خورتشوف من أجل إيقافه سريعًا. كان يعلم أن ثمن مثل ذلك التحرك هو حياته، لكنه شعر أن التضحية تستحق. 

في مارس 1961، أعد بنكوفسكي وثائق سرية وصورة له قص رأسه منها حتى إذا ما وقعت في أيدي السوفييت لا يعرفون من هو، لكن فيها ما يساعد الغرب على التعرف عليه. 

وبعد فشل المحاولة الأولى للوصول للأمريكيين بسبب عدم وجود عميل جيد لهم في موسكو للتواصل معه، نجح بنكوفسكي من خلال ضيف يرأس وفدًا إنجليزيًا تجاريًا وصل موسكو، في أن يتواصل مع المخابرات البريطانية MI6. وكان هذا الضيف هو جريفل وين. 

أرسل بنكوفسكي للبريطانيين معلومة تكشف حجم اختراقه لأجهزة الأمن الروسية، فقط كتمهيد للمزيد بعد تأكدهم من صدقه. 

المعلومة أن ضابطًا أمريكيًا يدعى Guy Powers سقطت طائرة التجسس التي كان يقودها فوق روسيا وقال الروس إنه مات أثناء سقوطه، لكي ينفردوا به ويعذبوه حتى يحصلوا كل ما يريدون منه دون ضغط غربي، كان حيًا. 

الآن يعرف الغرب بذلك، ويعملون على تبديله بجاسوس روسي يدعى رودلف أبل Rudolf Abel سقط لديهم. وكان هذا موضوع فيلم توم هانكس Bridge of Spies.

بعد تأكدهم من صحة معلومة بنكوفسكي، تم تدبير زيارة للوفد الروسي لبريطانيا، وهناك تم التقاط بنكوفسكي وتدريبه على أحدث أجهزة التجسس الغربية مثل الكاميرا Minox التي كانت تمثل ثورة تكنولوجية حينها. 

كما سلمهم بنكوفسكي كمًا هائلًا من الوثائق تشرح بالتفصيل الشديد بنية جهاز المخابرات الروسي، وأسماء أكثر من 300 عميل في الغرب. 

أفّاق بدرجة مستشار: إسرائيل بير تجسس على بن جوريون فتجسست عليهما مصر

هجوم نووي على أمريكا وأوروبا

كان بنكوفسكي ينقل للبريطانيين (والأمريكيين) من خلال زيارات جريفل وين لموسكو سيلًا لا ينقطع من المعلومات الدقيقة عن حالة خورتشوف وخططه ونواياه التي كان بالطبع يخفيها في العلن، حتى أرسل لهم خطط قاعدة روسيا النووية في كوبا. 

حينما وصلت الوثائق للولايات المتحدة، قابلتها المخابرات الأمريكية بالسخرية لأنها كانت تراقب كوبا جويًا ليل نهار.

إلا أن أوليج بنكوفسكي أرسل نسخًا من وثائق وتصميمات الصواريخ وأماكنها. 

دقة المعلومات التي أعطي بنكوفسكي بسببها اسمًا كوديًا سريًا (IRONBARK) تسبب في تحرك أمريكا الذي عُرف لاحقاً بأزمة الصواريخ الكوبية (Cuban Missiles Crisis). 

في نفس الوقت، نجحت بريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية في تفكيك وتخريب قاعدة الروس في ألمانيا الشرقية، في سلسلة عمليات نوعية لم يُكشف عن تفاصيلها النقاب بعد.

النهاية

أنقذ بنكوفسكي العالم من حرب نووية شاملة كان الروس ينوون مباغتة الغرب بها في مطلع 1964، حسب الجدول الزمني المحدد. لكن كل شيء أوقف بسبب شجاعة الرجل.

إلا أن النتيجة هي ريبة الروس في أمره هو وصديقه كثير التردد على روسيا، جريفل وين. 

نصحت بريطانيا بنكوفسكي بالتوقف ومحاولة الهرب. لكنه أصر على الاستمرار في كشف المزيد من العملاء الروس والمعلومات الحيوية لمنع الروس من العودة لأي خطة هجوم. فكانت النتيجة سقوطه هو ووين ومحاكمتهما. 

وين في السجن

وين في السجن

أعدم بنكوفسكي رميًا بالرصاص بعد محاكمة شكلية، أما وين فأرسلوه إلى معتقل مخيف في سيبيريا حيث ظل هناك عامين تحت التجويع والتعذيب، حتى استبداله مع جاسوس روسي في لندن، فخرج على النحو الذي يمكن أن تراه في هذا الفيديو:

وين قبل السجن وبعده بعامين فقط

نازيون بين القاهرة وتل أبيب: (1) أولريخ شنافت | مينا منير | دقائق.نت

ما بعد النهاية

خرج وين وعاش حياةً هادئة. لكنه عكف على كتابة مذكراته. 

The Man from Moscow

نشرت المخابرات أيضًا أوراق أوليج بنكوفسكي فقط بعد العملية بعامين!

book cover

كان السبب هو فضح السوفييت بالأرقام والأسماء حيث قامت المخابرات بترجمة مذكرات وين وبنكوفسكي للروسية وطبع عشرة آلاف نسخة وإرسالها عبر قنوات سرية إلى داخل روسيا لكي يقرأ الشعب الروسي عن فضائح النظام الحاكم. 

وكانت الحلقة التي بدأنا بها المقال بإيعاز من المخابرات الأمريكية لإبلاغ الروس رسالة: إننا نعرف وشعبكم يعرف.

قد تُذهل أن تعرف أن ضباطًا في المخابرات الروسية انتحروا، وأكثر من 300 ضابط تم تسريحهم، وبعد نشر معلومات الحرب النووية وفضائح خورتشوف على يد بنكوفسكي، أجبر الحزب الشيوعي خورتشوف على التنحي، وانتهى به الحال وحيدًا بائسًا في شقة صغيرة مات فيها بعدها بقليل.

إننا ندين كأفراد لبطولة أوليج بنكوفسكي الذي وقف وحده في مواجهة جنون نظام قرر في لحظة ما إفناء نصف الكوكب لكي يبقى الباقي منه شيوعياً. 


المؤلف ممتن لأرشيف الأمم المتحدة في جنيف، الذي وفر له وثائق أوليج بنكوفسكي المنشورة بالإنجليزية.


المراجع:

Jeremy Duns, Dead Drop: The True Story of Oleg Penkovsky (London: Simon & Schuster, 2013). 

Greville Wynne, Contact on Gorky Street (New York Atheneum, 1968).

Oleg Penkovsky, The Penkovsky Papers (London: Collins; Second Edition, 1966).

Jerrold L. Schecter, The Spy Who Saved the World: How a Soviet Colonel Changed the Course of the Cold War (Scribner Book Company, 2011).


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك