بعد مرور قرنٍ كامل على وفاة المسيح، لم تُعتبر المسيحية ديانة مستقلة في نظر أحد، بما فيهم أتباع المسيح نفسه.
أغلب يهود فلسطين رفضوا الاعتراف بيسوع الناصري مسيحًا من الأساس، أما البقية المؤمنة به، تعاملت معه بِاعتباره "نبيا يهوديا" تنبأ بقدومه الكتاب المقدس، وهذا القدوم يُبشّر بتدخل إلهي يُعيد إسرائيل لمجدها السابق.
بداية الاختلاف نبعت من إصرار القِلة من أتباع المسيح، على اعتبار أن الإيمان بيسوع أحد شروط نيل المرء "الخلاص الأخروي" بعد الموت.
وفي الوقت الذي أظهرت فيه روما، أخيرًا، بعض التسامح مع اليهود، وسمح يوليوس قيصر لهم بممارسة عبادتهم، مقابل التعهد بعدم التبشير لديانتهم واستقطاب المزيد من الأتباع لها، لم يُبدِ الرومان ذات التسامح مع المسيح، بعدما صلبوه، وهي عقوبة الخونة عند الرومان.
عاشت المسيحية مجرد فرقة يهودية حتى نهاية القرن الأول.
حتى حدثت نقطة التحول الرئيسية حينما تمرّد تلميذا يسوع، بوس ولوقا، على التعهد بـ"عدم التبشير" للرومان.
فسعوا لاستقطاب بعض طوائف الوثنيين، الذين أبدوا احترامًا لليهودية، حتى أنهم كانوا يحضرون الأنشطة الدينية في المعابد اليهودية.
سعى تلامذة المسيح لاستقطاب هذه الفئة الوثنية إليهم، فعقدوا اجتماعًا في القدس لبحث شروط ضمهم للمسيحية.
ومن الملفت أن شروط الضم، حملت طبيعة يهودية قحّة، مثل: الختان، عدم العمل يوم السبت.
أقبل الوثنيون بكثافة على هذا الفرع المسيحي اليهودي بعد أعوامٍ من رفض اليهود ضمهم إلى صفوفهم، وفي وقتٍ وجيز فاق عددهم عدد اليهود الأصليين.
احتدم الجدل حول هذه الفئة، وتمسك اليهود برفض وجودهم في معابدهم، فاقتصر انتماؤهم على الفرع المسيحي فقط، وبهذا ظهر مُسمّى "مسيحي" بشكلٍ منفرد لأول مرة في التاريخ.
ادّعى بولس، أن يسوع قد أتاه في رؤية وطلب منه أن يكون "رسولًا للأمم".
هنا اعتبر بولس أنه صاحب مهمة مقدسة في التمرد أكثر وأكثر على قرارات الحجب الرومانية، والدعاية للمسيحية في كل مكان.
لكنه هذه المرة تغاضَى عن شروط القبول اليهودية، ولم يعد الختان، أو غيره، من شروط الانضمام إلى المسيحية.
وبالتالي صار من السهل على أي وثني الانضمام إلى المسيحية طالما أعلن تخليه عن عبادة الأوثان.
أحدث نشاط بولس توترًا في المجامع اليهودية وفي الاجتماعات الحكومية الرومانية.كان خرقًا واضحًا لمرسوم يوليوس قيصر.
نعرف من رسائل بولس، أنه تعرّض للسجن والجلد والضرب بالعصى عدة مرات، لم يقل إن ذلك بسبب "نشاط التكريز"، لكنه عُوقب بلا شك بسبب نشاطه "المُعادي للأصنام"!
وفي 70م دمّر الرومان القدس ومجمع الهيكل بسبب الثورة الكبرى التي دبّرها اليهود ضدهم.
اعتبر المسيحيون أن هذه الكارثة وقعت بسبب رفض اليهود الاعتراف بيسوع، ومع تدمير الهيكل أصبح من المستحيل تنفيذ الطقوس الدينية التقليدية، ومن هنا ظهرت المسيحية كدينٍ مُستقل.
سعى المسيحيون لتأسيس نظام ديني مختلف عن اليهود، استلهموا بعضه من الإدارة المحلية الرومانية للقطاعات التابعة للإمبراطورية، فعيّنوا كاهنًا مسؤولاً يعيش داخل أبرشية مسؤولة عن مقاطعة بعينها.
سعيًا لاستقطاب الأتباع، أبدى الكهنة المسيحيون تساهلاً كبيرًا بتسهيل عمليات التوبة والغفران، وانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام المسيحيين لدخول الديانة.
وبحلول منتصف القرن الثاني الميلادي، سيطر على المسيحية قادة لا تربطهم أي رابطة باليهود، مثل: جوستين مارتير من روما، وإيريناوس من ليون وترتليان من قرطاج، الذين عُرفوا بـ"آباء ما قبل مجمع نيقية".
والذين ساهموا بشكل كبير في تأسيس إنتاج لاهوتي مسيحي يبتعد عن الكتاب المقدس اليهودي، ويُعيد تفسير العهد القديم وفقًا للهوى المسيحي.
وهنا ظهرت بعض الآراء المعادية لليهود من جانب المسيحيين، واعتبروا أنهم المسؤولون عن قتل يسوع، وأن الله يعاقبهم بسبب ذلك.
قال جوستين إن "المسيحيين ضد إسرائيل، وإن اليهود ليسوا شعب الله المختار"، بينما وصف إيريناوس اليهود بأنهم "هراطقة يتبعون الشيطان"
كما دعا القساوسةُ المسيحيين لتجنّب أي سلوكيات تحسبهم على الطائفة اليهودية، فكفّوا عن التبرك بالحاخامات، أو أداء الطقوس الدينية في كنيس يهودي يوم السبت بجانب القدوم إلى الكنيسة يوم الأحد.
وعندما ظهرت الأناجيل الأربعة إلى النور، ضمّها المسيحيون إلى العهد القديم، ليمتلكوا كتابهم المقدس المنفرد لأول مرة؛ العهد الجديد.
كما بذل الآباء الثلاثة جهودًا لإقناع روما بالاعتراف بالمسيحية كديانة مستقلة مثلها مثل اليهودية، وهو ما ظلّت ترفضه روما حتى 312م، حين اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين الديانة المسيحية، وهو ما توّج بمجمع نيقية، الذي عقده الكهنة 325م، وأقرّوا قانون إيمان جديدًا شكّل نقطة الفراق النهائية مع اليهودية، والتدشين النهائي للمسيحية كدينٍ جديد.