بعد وفاة القيصر الروماني قسطنطين الأول، تولى ابنه قسطانيطوس الثاني الحكم وعمره 19 عامًا.
فور اعتلائه العرش القيصري، قرّر قسطانيطوس التخلُّص من أي فردٍ قد يُمثل تهديدًا على عرشه، فارتكب مذبحة شملت أفراد العائلة الحاكمة وعددًا من القادة والنبلاء.
لم ينج من هذه المذبحة سوى طفلٍ في السادسة من عُمره، هو يوليان بن قسطنطيوس، الأخ غير الشقيق للقيصر الراحل قسطنطين الأول.
قُتل قسطنطيوس في المذبحة، ونجا ولده بمُعجزة. تقرّر أبعاد الابن أكثر ما يكون عن عاصمة الدم روما، فأُرسل يوليان إلى مدينة نيكميديا قرب القسطنطينية، حيث تربى في رعاية أسقف.
عاش يوليان كالسجين، فرض عليه مَن تبقى من أهله حراسة مشددة خوفًا من اغتياله، وحرموه من التعرُّف على أي أصدقاءٍ من سنه، ولم يُسمح له بالاتصال بأحد إلا العبيد، الذي كان يجري انتقاؤهم بعناية شديدة.
خلف هذه الأسوار، لم يجد يوليان شيئًا يفعله إلا القراءة؛ فكان يقضي وقتًا طويلا في مكتبة الأسقف، التي كانت تحوي مجموعة ضخمة من الكتب متنوعة المجالات. بفضل هذه القراءات كوّن يوليان معرفة كافية جعلته يفكر في إعادة النظر بالديانة المسيحية كلها.
بفضل قراءاته، تعمق يوليان في معرفة الفلسفات القديمة التي حرّمتها المسيحية، واعتقد أن العودة للآلهة القديمة سيكون مفتاح إعادة العظمة للإمبراطورية الرومانية.
في 335م، تغيرت حياته رأسًا على عقب، بعدما استدعاه الإمبراطور على عجل. توقّع يوليان أن ينتظره حُكمٌ بالإعدام، لكنه فوجئ بالإمبراطور يعيّنه وريثًا له وقائدًا لجيشه!
لم تكن هذه علامة مفاجئة على ثقة قسطانطيوس به، وإنما كانت الإمبراطورية تمرُّ بظرفٍ صعب؛ استولى فيه القائد الجيرماني شنوديمار على منطقة الراين والغال "ألمانيا وفرنسا"؛ معلنًا انتهاء سيطرة الرومان عليها.
في ظِل هذه الظروف، بحث قسطانطيوس عن ذراعٍ يُمنى لا يُشكل عليه خطرًا، فلم يجد خيرًا من يوليان، الذي لا يتمتّع بخبرة عسكرية والغارق في الكتب! ولتوثيق تحالفه به، زوّج قسطانطيوس يوليان من أخته هيلينا.
بأمرٍ من الإمبراطور، قاد يوليان -غير العسكري- جيشًا تجاه بلاد الغال، لمقاومة التمرُّد فيه.
عرف يوليان أنه لا يتمتّع بأي خبرة تكفل له النجاح في تحقيق هذه المهمة، هنا ظهرت أهمية الكتب التي عكف على قراءتها عُمره كله.
استعاد يوليان ما كتبه يوليوس قيصر خلال حملة قديمة قادها على بلاد الغال منذ 400 عامٍ.
أتقن العديد من التكتيكات القديمة، التي كفلت له تحقيق انتصارات صغيرة في مناوشات جمعت بين جيشه والجرمانيين؛ فكسب ثقة جنوده وباتوا على استعدادٍ لطاعته في كل ما يأمر به.
في النهاية، تمكّن يوليان من قيادة جيشه لتحقيق انتصارٍ كبير على القوات الجرمانية في معركة "ستراسبورج"، دون تلقي أي دعمٍ أو استشارة من الإمبراطور.
شكّل هذا النصر نقطة فاصلة في تأمين حدود الإمبراطورية الرومانية ضد الجرمانيين، وأكسب يوليان خبرات عسكرية هائلة، جعلته يزداد ثقة بقوة مركزه في نظام الحكم الروماني.
وازدادت قناعة يوليان بأن المسيحية أضعفت الإمبراطورية الرومانية، لأنه نسب كافة نجاحات الميدانية إلى التكتيكات العسكرية القديمة الواردة في كتب أهملتها المسيحية.
تزامن نجاح يوليان بنيل قسطانطيوس سلسلة هزائم في الشرق أمام الفرس.
اعتبر الإمبراطور أن ابن عمه تفوّق أكثر مما ينبغي، وبات خطرًا عليه، فأمره بإرسال قواته لقتال الفرس، وهو القرار الذي اعتبره يوليان وسيلة لإضعافه، فرفض تنفيذه، وأعلن تمردًا على الإمبراطور.
اندلعت حربًا باردة بين قسطانطيوس في الشرق ويوليان في الغرب.
لم تحدث أي مواجهة عسكرية بين الطرفين، بعدما مات قسطانطيوس، بشكلٍ مفاجئ، مُفسحًا المجال أمام يوليان "الوريث الشرعي" لتولّي الحكم.
بين ليلةٍ وضحاها، وجد يوليان نفسه أصبح أقوى رجلٍ في إمبراطورية مهيبة تحكم أغلب أرجاء العالم.
اعتبر أنه لم تعد حاجة لإخفاء معتقداته المُعادية للمسيحية.
الآن، أصبح يوليان، هو الآمر الناهي في الإمبراطورية الرومانية.
أعلن إعادة فتح معابد "الآلهة القديمة، في كافة أنحاء الإمبراطورية، وسمح بتقديم القرابين لها.
لم يسع يوليان لقمع المسيحية مثلما كان يجري في القرن الأول، بسبب انتشارها بشكل كبير في أنحاء الإمبراطورية، وإنما قرّر تطبيق سياسية "التسامح الديني".
وفقًا للمؤرخ أميانوس مارسيلينوس، فإن يوليان كان يقول: "لا يوجد وحوش برية أكثر خطورة على الإنسان، مثل أغلب المسيحيين في كراهيتهم لبعضهم البعض"، في إشارة منه لضخامة وعنف الانقسامات المسيحية التي عرفتها الإمبراطورية، بعد مرور 50 عامًا فقط على اعتبارها ديانة رسمية للإمبراطورية بأمرٍ من قسطنطين الأول،
هذه الانقسامات كانت تتطور لنزاعات مسلحة في أحيان كثيرة.
خطّط يوليان لضرب المسيحيين بالمسيحيين، بإعلانه عفو عام عن جميع المسيحيين المتورطين في أعمالٍ طائفية، وإعادة المسيحيين المنفيين لبلادهم وكنائسهم، بهدف وضع أقليات مسيحية متعددة معادية لبعضها في نفس المدينة، على أملٍ أن يُشعل هذا الاحتكاك الحرب بين المسيحيين وبعضهم.
بالفعل، اندلعت الاشتباكات "المسيحية - المسيحية"، وخاصة بين أتباع مذهب "الدوناتية" وأتباع "العقيدة النيقية".
بسبب أعمال الشغب تلك، أمر يوليان برفع الضرائب على المدن المسيحية بِاعتبارها "مدن شغب" لا يحترم شعبها القانون، فيما أجزل العطاء والامتيازات للمدن الوثنية.
لم يأتِ العام 362م، إلا وكان المسيحيون قد منحوا يوليان لقب "المرتد".
حينها، قرّر يوليان أن يقود حملة كبرى ضد الفرس، لتثبيت حُكمه. قرّر غزو "طيسفون"، عاصمة الفرس في العراق.
في بداية الحرب، حقق يوليان عدة انتصارات سريعة، لكنه في النهاية فوجئ بهجومٍ فارسي ضخم، حاصره من الأمام والخلف، وعجز عن مقاومته فلقي مصرعه قُرب مدينة سامراء العراقية.
وبالرغم من نظرة العداء التي اختزنها المسيحييون للفرس دومًا باعتبارهم أكبر خطرٍ على ديانتهم، إلا أنهم اعتبروا أن التخلُّص من يوليان هو أكبر خدمة قدّموها للمسيحية.
فلو استمرّ حُكم يوليان أكثر من ذلك، كانت المسيحية سيتعيش آخر أيامها على الأرض، وبالتأكيد فإنها لم تكن ستبقى بهذا الانتشار الذي تمتلكه اليوم.
العصر المضطرب لحكم يوليان: الإمبراطور الوثني الأخير (ذا كوليتر)
كتاب قصة الحضارة – ويل ديورانت
كتاب الإمبراطور الوثني الأخير – إتش سي تيتلر