مع اجتياح فيروس كورونا العالم مُثيرًا موجة هائلة من الذعر، تستعيد ذاكرة مُحبي السنيما أفلامًا شهيرة رَوَت قصص تفشي الأوبئة والبطولات والتضحيات للتغلب عليها.
عديدون توقفوا عند “Contagion” الذي كتبه سكوت بيرنز وأخرجه ستيفن سودربرج وعُرِضَ عام ٢٠١١، الذي لم ينتبه له الكثيرون وسط ضجيج الثورات في منطقتنا ليغيب عن الأضواء سريعًا، قبل أن يعيده كورونا إليها.
بسبب تفشي فيروس كورونا ارتفعت فجأة معدلات البحث في جوجل على فيلم Contagion في شهر مارس 2020.الفيلم من انتاج 2011 ويتحدث…
Posted by دقائق on Monday, March 9, 2020
الفيلم يروي قصة كابوسية من حواديت نهاية العالم على غرار فيلم World War Z لكنها أكثر واقعية، دون مؤثرات وشطحات فيلم الزومبي الشهير.
تدور أحداث Contagion عن وباء فيروسي مُخيف يخرج من الصين ويغزو العالم، بتفاصيل شديدة الدقة تجعل منه أقرب لنبوءة تحققت في أزمة كورونا الجديد، بدءًا من مكان ميلاده وانتشاره السريع عالميًا، وردود الأفعال حوله، وتصاعد معدلات الإصابة والوفيات، ومحاولات السيطرة، وجهود العلماء، والحجر الصحي، ونزول الجيوش.
سيناريو “Contagion” لم يلجأ لأجواء الرعب والتشويق المعتادة في أفلام الأوبئة الأخرى. عوضًا عن ذلك اعتنى بالتركيز على ردود الأفعال المُتباينة إزاء الكارثة بين الأفراد أو الأنظمة حول العالم.
والحق أن هذا الاختيار لعب دورًا كبيرًا في ملء فراغ المؤثرات وأجواء الرعب بتجسيد الإحساس بالخطر، ورفع درجة تماهي المُشاهِد، الذي لا يتوقع أن يصادف يومًا زومبي آكل لحوم بشر، لكنه يعاصر موجات أنفلونزا الطيور والخنازير وفيروس كورونا لاحقًا تحصد أرواح الآلاف) مع مصائر أبطال الفيلم في صراعهم مع الفيروس.
أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام
في “Contagion” عاودَ سودربرج توظيف تكنيك الحدوتة متعددة الأطراف، الّذي سبق له استخدامه في فيلمه الشهير “ترافيك” (٢٠٠٠) ليحقق مفهوم العالم كقرية واحدة، وهو ما صار الآن في ٢٠٢٠ حقيقة واقعة نلمسها في أزمة كورونا وذلك بفضل منصات السوشال ميديا التي تنتقل فيها الأخبار والأرقام والإحصاءات فور وقوعها.
تدور أحداث Contagion بالتزامن على أكثر من محور، دون أن يلتقي أبطالها وجهًا لوجه طيلة الفيلم. لكنهم رغم ذلك، وعبر لقطات أو تفصيلات دقيقة قد تصل إلى جملة وحيدة على لسان أحد الأبطال، يؤثرون في خطوط وحيوات بعضهم بعضًا.
على سبيل المثال، اختطف الطبيب الآسيوي الشاب زميلته الطبيبة الأمريكية (ماريون كوتيار) ليساوم رؤساءها عليها مقابل إرسال جرعات من العقار المضاد للفيروس النزفي الذي يجتاح العالم، يكفي لإنقاذ من تبقى على قيد الحياة من أبناء قريته.
“يصنعون الدواء ليعالجوا أنفسهم، بينما نقف نحن في نهاية الطابور.. ستكونين أنتِ وسيلتنا للوقوف في مقدمة الطابور”.. يُقدِم الطبيب الشاب على هذه الخطوة بعد أن قرأ خبرًا على الإنترنت يفيد بنجاح أحد العقاقير في علاج ضحايا الفيروس.
“يقولون إن فورسيث (اسم العقار) بدأ يحقق نتائج”.. وتكون هذه الجملة الأخيرة –العابرة- على لسان الطبيب الشاب “وحدها” هي المفتاح الذي يربط هذا الخط –الّذي تدور أحداثه في هونج كونج- بخط آخر من أهم خطوط الفيلم، وهو قصة المدون الشاب (لعب دوره چاد لو) الذي يستغل ذيوع مدونته على الإنترنت في التربح من شركات الأدوية بالترويج لدواء عديم الفاعلية (فورسيث) مقابل أربعة ملايين دولار.
” عندما انتشرت الإنفلونزا الإسبانية ١٩١٧، كان الشخص يموت فيتربح من موته صانع التوابيت الذي يصنع له تابوته. وعندما تم التخلص من الطيور، ارتفع سعر اللحوم الحمراء.. لذا، لا أرى ما يمنع من أن أتربح من ضعف جهازنا المناعي”.
كذا يبرر المدون الشاب ظهوره في فيديو يراه الملايين من زوار مدونته وهو يتعاطى البلاسيبو أو الدواء الوهمي عديم الفاعلية، ويظهر على شاشة التليفزيون بخطاب مُضلل لمتابعيه ومزايدًا بعنف على الجهود الجادة الحقيقية التي تقوم بها الجهات الحكومية في محاصرة الفيروس والبحث عن مصل مضاد له.
يُحسب لفيلم Contagion الانتباه مبكرًا إلى هذا النمط من الشخصيات الذي أنتجه تمدد الواقع الافتراضي، إذ أتاح شيوع إعلام الفرد على حساب الإعلام التقليدي وانجذاب الناس تلقائيًا لأصحاب الصوت العالي والنبرة المعارضة بغض النظر عن المضمون.
أتاح هذا لجهات مختلفة الاستثمار في الحسابات الشخصية والصفحات التي أثبت أصحابها ليس فقط الموهبة والقدرة على اجتذاب انتباه العدد الأكبر من المستخدمين، بل الاستعداد لتطويعها في تضليل متابعيهم لصالح من يدفع أكثر، حتى وصل الأمر لاعتماد مؤسسات صحفية عريقة مثل على تقارير مُضللة كما حدث مؤخرًا في تغطيتها لانتشار كورونا في دولة بعينها.
الكاذب النبيل لم يدخل دير شبيجل والجارديان عنوة .. السفير الأمريكي نبههم | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
لا يضم “Contagion” أبطالًا هوليووديين بالمعنى التقليدي المتعارف عليه لأن الحرب هنا بيولوجية، والشرير كائن متناهي الصغر ينتقل بالتنفس، ولا توجد منظمة إجرامية تسعى لنشره كي تروج للمصل الذي تملكه..
الأبطال هنا أفراد عاديون، أسلحتهم هي إرادتهم وإحساسهم بالواجب والمسؤولية بالإضافة لعلومهم الطبية. بشر لا يخلون من هنات ولحظات ضعف مثل د. شيڤر (لورانس فيشبرون) الطبيب الكبير في الفريق الطبي الأمريكي الذي لا يستطيع كتمان السر، ويطلب من حبيبته مغادرة مانهاتن قبل أن يُفرَض عليها الحجر الصحي، فيتفشى الخبر ويتسبب في مشكلات ضخمة إثر محاولات النزوح الجماعية من المدينة.
الطبيب الآسيوي سان فنج (شن هان) يلقي بعمله ومركزه وراء ظهره ويرتكب جريمة خطف بدوافع إنسانية لا تخلو من أبعاد سياسية.
هذا الضعف الذي يرفع من قيمة إنجاز الأبطال وانتصارهم على أنفسهم قبل انتصارهم على الفيروس، فهُم ليسوا أبطالًا خارقين، ولكنهم حققوا انتصارات كانتصاراتهم.
لم ينس سيناريو Contagion الإيماء نحو المقابلة بين سلوك المؤسسات وسلوك الأفراد في هذه الظروف الأپوكاليبتوية (نهاية العالم)، وهي مقابلة تخلو من الإدانة الأخلاقية، وتدعو للتأمل في مدى التكامل الذي قد ينشأ بين موقفين متناقضين.
فالطبيبة الأمريكية المختطفة تُفاجأ بعد استرجاعها من قبضة خاطفيها مقابل جرعات من المصل المضاد للفيروس، بأن هذه الجرعات التي افتدتها حكومتها بها، والتي ستذهب للأطفال الريفيين جرعات وهمية.
“الصينيون طلبوا منا ألا نتفاوض، لقد أصبحت عمليات الخطف مقابل المصل تجارة رابحة، والاستجابة لكلٍ منها ستخلق مشكلة كبيرة”..
كذا برر لها زميلها سبب افتدائها بأمصال غير فعالة، وهو سبب “مؤسسي” منطقي بل وأخلاقي بالنظر للمصلحة العامة؛ لأن فتح باب التفاوض مع كل مختطِف سيودي بالجهود المبذولة كلها لنفقٍ من الفوضى.
وعندئذٍ يكون هرب الطبيبة الشابة من زميلها في مطار هونج كونج (عائدة إلى أطفال القرية اللذين تعلقت بهم خلال فترة احتجازها) بمثابة ردة فعل أخلاقية بدورها، لكن بالمقاييس الفردية الأكثر خضوعًا للمشاعر الشخصية.
كلا الموقفين أخلاقي وفي محله، بل أن أي موقف آخر بخلافهما في هذه الظروف أقل أخلاقية.
نفس المقابلة نجدها في إقدام د. شيڤر على التبرع بجرعته الخاصة من المصل التي صرفتها له الحكومة باعتباره من المسئولين الرئيسيين في الحرب ضد الفيروس (موقف أخلاقي “مؤسسي” بامتياز) لابن عامل النظافة في مكتبه، تكفيرًا عن خطئه المهني والإنساني، وهو موقف أخلاقي شخصي وإنساني بامتياز أيضًا.
وبالموقفين الأخلاقيين الصحيحين “معًا” تنتصر الحياة، وهو ما يعجز المُزايدون عن إدراكه فيطالبون المؤسسات بتجاهل المنظور الواسع للمصلحة العامة والتعامل وفق الأخلاقيات الفردية، أو العكس.
أنجح 10 أفلام في تاريخ هوليوود | حاتم منصور
رغم عدد الضحايا والدماء والفوضى والمواقف القاسية والتضحية باثنتين من نجمات الفيلم . إلا أن سودربرج منح فيلمه نهاية سعيدة بانتصار الحياة بفضل جهود دولية ضخمة، ومن قبلها بطولات إنسانية حقيقية قام بها أناس عاديون انتصروا أولًا على ضعفهم، فقادهم هذا النصر لإنقاذ البشرية كلها.
لعل هذه النبوءة تتحقق على أرض الواقع، وتنتصر الإنسانية على كورونا قبل فوات الأوان.