يتخيل الكثير منا أن الموت مثل النوم، فيبدأ بثقل رأسك، ثم ترفرف عيناك وتغلقان برفق، وتأخذ نفسًا أخيرًا ثم تختفي الأنوار.. خيال لطيف بالتأكيد. لكننا نعرف الآن أن الأمور لا تسير بهذه السرعة.
سام بارنيا، مدير الرعاية الحرجة وأبحاث الإنعاش في مركز لانغون الطبي بجامعة نيويورك، يقول إن الوعي يستمر خلال رحلة الموت؛ إذ يستمر إطلاق الموجات الدماغية في القشرة الدماغية - الجزء الواعي من الدماغ - لمدة 20 ثانية تقريبًا بعد الموت السريري.
الدراسات التي أُجريت على فئران التجارب أثبتت أن أدمغتها تزداد نشاطًا في اللحظات التي تلي الموت، مما يؤدي إلى حالة من الإثارة واليقظة المفرطة.
إذا حدثت مثل هذه الحالات لدى البشر، فقد يكون ذلك دليلًا على أن الدماغ يحافظ على وعي واضح خلال المراحل المبكرة من الموت.
باحثو كلية الطب في جامعة ييل، أجروا دراسات على 32 دماغًا لخنازير ميتة، ربطوها بنظام نضح اصطناعي يسمى Brain Ex، يضخ محلولًا يحاكي تدفق الدم، لجلب الأكسجين والمواد المغذية إلى الأنسجة الخاملة.
أعاد هذا النظام تنشيط الدماغ، وأبقى بعض خلاياه "حية" لمدة تصل إلى 36 ساعة بعد الوفاة، حيث استهلكت الخلايا السكريات واستقبلتها، وعادت أجهزة المناعة في الدماغ إلى الظهور، وكانت بعض العينات قادرة حتى على حمل الإشارات الكهربائية.
نظرًا لأن الباحثين لم يكونوا يستهدفون تمثيل لعبة Animal Farm with Zombies، فقد ضمنوا مواد كيميائية في المحلول تمنع حدوث نشاط عصبي مماثل للوعي.
كان هدفهم الفعلي هو تصميم تقنية تساعد العلماء في دراسة الدماغ ووظائفه لفترة أطول وأكثر شمولًا، حتى نتمكن من تطوير علاجات جديدة لإصابات الدماغ وحالات التنكس العصبي.
هناك حياة بعد الموت.. هذا ما أثبته العلم!
لا، لم يكتشف العلم دليلًا على وجود الحياة الآخرة أو مقدار وزن الروح، وفق الروايات الدينية. لكنه أثبت أن الجينات تستمر بعد الموت.
في دراسة نُشرتها مجلة علم الأحياء المفتوح التي تصدرها الجمعية الملكية حول التعبير الجيني (العملية التي يجري من خلالها استخدام المعلومات الجينية لاصطناع منتجات الوظائف الجينية) على الفئران الميتة وسمك الزرد، كان الباحثون يريدون التأكد مما إذا كان التعبير الجيني قد يتضاءل تدريجيًا أو يتوقف تمامًا مع الموت.
لكن ما اكتشفوه فاجأهم كليًا، فقد أصبح أكثر من ألف جين أكثر نشاطًا بعد الموت، وفي بعض الحالات، استمرت هذه التعبيرات الشائكة لمدة تصل إلى أربعة أيام.
بيتر نوبل، مؤلف الدراسة وأستاذ علم الأحياء الدقيقة بجامعة واشنطن، قال لمجلة نيوزويك: "لم نتوقع ذلك.. هل يمكنك أن تتخيل، بعد 24 ساعة من وقت الوفاة أن تأخذ عينة وتزداد نسخ الجينات بالفعل بكثرة؟ كانت تلك مفاجأة".
يقترح نوبل وزملاؤه أن هذا يظهر أن الجسم يخضع لـ "إغلاق تدريجي"، مما يعني أن الفقاريات تموت تدريجياً وليس كلها مرة واحدة.
حتى الجينات سوف تتلاشى في النهاية، وسيتحول الجسد إلى تراب، هل تجد مثل هذا النسيان مثبط للهمم؟ لست وحدك. لكن الفيزياء تعزي محبيك بأن جزءًا منك سيستمر لفترة طويلة بعد وفاتك.. طاقتك.
وفقًا للقانون الأول للديناميكا الحرارية: "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم. ولكن تتحول من شكل إلى آخر".
الفيزيائي آرون فريمان يشرج في كتابه "تأبين من فيزيائي": "سيذكر الفيزيائي والدتك التي تبكيك بالقانون الأول للديناميكا الحرارية؛ لا طاقة تستحدث في هذا الكون، ولا طاقة تفنى. كل طاقتك، كل اهتزاز، كل وحدة حرارية ، كل موجة من كل جسيم كان ابنها المحبوب ستبقى معها في هذا العالم.".
تجارب الاقتراب من الموت تظهر عبر مجموعة متنوعة من الأساليب: يطفو بعض الناس فوق أجسادهم. يذهب البعض إلى عالم خارق للطبيعة ويلتقون بأقارب متوفين. يستمتع الآخرون بالسيناريو الكلاسيكي للضوء الساطع والنفق المظلم. لكن شيئًا واحدًا مشتركًا بينهم جميعًا: لا نعرف ما الذي يحدث.
دراسة نُشرت في مجلة طب الجهاز العصبي تشير إلى أن تجارب الاقتراب من الموت تنبع من نوع من "الهيبناغوجيا" أو الحالة الانتقالية من النوم إلى الاستيقاظ.
قارنت الدراسة بين الناجين الذين مروا بتجارب الاقتراب من الموت مع أولئك الذين لم يفعلوا ذلك، فوجد الباحثون أن الأشخاص الذين يعانون من تجارب الاقتراب من الموت كانوا أكثر عرضة أيضًا لاضطرابات حركة العين السريعة (REM)، وهي حالات يتطفل فيها النوم على عتبة الوعي.
كيفن نيلسون، الأستاذ في جامعة كنتاكي والمؤلف الرئيسي للدراسة، قال لبي بي سي: "الأشخاص الذين مروا بتجارب اقتراب من الموت قد يكون لديهم نظام استثارة يجعلهم عرضة لهذا الاضطراب" .
جدير بالذكر أن الدراسة لها حدودها، إذ اعتمد على مقابلات مع 55 مشاركًا فقط في كل مجموعة، واعتمدت النتائج على الأدلة القصصية؛ باعتبار أن دراسة تجارب الاقتراب من الموت تتعلق بحالات نادرة ولا يمكن تحفيزها في بيئة خاضعة للرقابة بالنظر للقيود الأخلاقية. بالتالي تبقي البيانات متفرقة وعرضة للكثير من التفسيرات.
مع ذلك، وفي إحدى التجارب، ثبت الباحثون صورًا على أرفف عالية في 1,000 غرفة مستشفى، لتكون مرئية فقط لمن يفترض أن "أرواحهم" تركت أجسادهم ثم عادت. لكن، لم يبلغ أي ناج من سكتة قلبية عن رؤية الصور.
لا يزال الباحثون غير متأكدين من معلومة حداد الحيوانات على موتاها، لكن روايات شهود العيان تشير إلى أن الإجابة قد تكون نعم.
شهد الباحثون الميدانيون بقاء الأفيال مع أقرانهم الموتى، حتى لو لم يكن المتوفى من نفس قطيع العائلة، كما شوهدت الدلافين تحرس المتوفين من أفراد نوعها، وتحافظ الشمبانزي على عادات اجتماعية مع الموتى، مثل الاستمالة.
لم يلاحظ أي نوع آخر وهو يؤدي طقوس تذكارية شبيهة بالبشر، الأمر الذي يتطلب التفكير المجرد، لكن هذه الأحداث تشير إلى أن الحيوانات تمتلك فهمًا فريدًا للموت والاستجابة له.
جيسون جولدمان كتب لبي بي سي: "من بين كل جانب من جوانب الحياة التي انفرد بها جنسنا البشري، هناك المئات التي نتشاركها مع الحيوانات الأخرى، وبقدر أهمية تجنب إسقاط مشاعرنا على الحيوانات، نحتاج أيضًا لنتذكر أننا، بطريقة لا مفر منها، حيوانات أيضا".
درس عالم الأنثروبولوجيا دونالد براون الثقافات البشرية واكتشف مئات الميزات المشتركة بين كل ثقافة، من بينها، أن لكل ثقافة طريقتها الخاصة لتكريم الموتى والحداد عليهم.
لكن من كان الأول؟ البشر أم غيرهم من أشباه البشر؟
هذه الإجابة صعبة لأنها محاطة بضباب ما قبل التاريخ. مع ذلك، هناك مدخل للفهم وهو: هومو ناليدي.
اكتشف الباحثون العديد من الحفريات لهذا النوع المنقرض من أشباه البشر في غرفة بكهف النجم الصاعد، مهد البشرية، بجنوب أفريقيا.
قاد هذا الباحثين إلى الاعتقاد بأنه من غير المحتمل أن ينتهي الأمر بالعديد من الأفراد هناك عن طريق الصدفة، فخلص البعض إلى أن الغرفة كانت بمثابة مقبرة لهومو ناليدي، لكن البعض الآخر غير متأكد، وهناك حاجة إلى مزيد من الأدلة قبل أن نتمكن من الإجابة بشكل قاطع على هذا السؤال.
بالنسبة لمعظمنا، الخط الفاصل بين الحياة والموت واضح: نحن أحياء، إذن نحن لسنا أموات.. فكرة يعتبرها الكثيرون مفروغًا منها.
لكن المصابين بمتلازمة كوتارد (متلازمة وهم كوتار) لا يرون الفرق بشكل واضح.
الدكتور جول كوتارد وصف هذه الحالة النادرة لأول مرة في 1882، حيث شخص الأشخاص الذين يعتقدون أنهم ماتوا أو فقدوا أجزاء من أجسادهم أو فقدوا أرواحهم، وتجلى هذا الوهم العدمي في الشعور السائد باليأس وإهمال الصحة وصعوبة التعامل مع الواقع الخارجي.
في إحدى الحالات، اعتقدت امرأة فلبينية تبلغ من العمر 53 عامًا مصابة بمتلازمة كوتارد أن رائحتها تشبه رائحة السمك المتعفن، ورغبت في إحضارها إلى المشرحة حتى تكون مع نوعها، لكن لحسن حظها أدى اتباع نظام من مضادات الذهان ومضادات الاكتئاب إلى تحسين حالتها.
من المعروف أيضًا أن آخرين يعانون من هذا الاضطراب العقلي المنهك يتحسنون بالعلاج المناسب.
لا. هذه أسطورة، لكن لها أصل بيولوجي، فسبب عدم نمو الشعر والأظافر بعد الموت هو عدم إمكانية إنتاج خلايا جديدة.
أثناء الحياة، يعمل الجلوكوز على تغذية انقسام الخلايا، وتتطلب الخلايا الأكسجين لتفكيك الجلوكوز إلى طاقة خلوية، ثم يضع الموت حدًا لقدرة الجسم على التعامل مع أي منهما.
كما أنه ينهي تناول الماء مما يؤدي إلى الجفاف، عندما يجف جلد الجثة، فإنها تبتعد عن الأظافر (مما يجعلها تبدو أطول) وتتراجع حول الوجه (بما يعطي ذقن الرجل الميت ظلًا)، ولذلك يمكن لأي شخص يرى جثة أن يخطئ بسهولة في هذه التغييرات، ويعتبرها علامات على النمو.
لنشكر العلم أننا نعرف تلك المعلومة الآن.. عندما حفر أسلافنا حول جثث متوفين للتو، ووجدوا نموًا للشعر وبقعًا دموية حول الأفواه نتيجة تجمع الدم الطبيعي.... مممم. حاول أن تتخيل أنت ما توقعوه!
الأشخاص الذين يعيشون حتى عمر 110 سنوات، يُطلق عليهم اسم المعمرين الفائقين، وهم سلالة نادرة، أما أولئك الذين يعيشون حتى 120 فهم نادرون، وقد كانت الفرنسية جين كالمينت، أطول البشر عمرا، حيث عاشت 122 عامًا.
لكن لماذا نموت أصلًا؟
إذا وضعنا روايات الاستجابات الروحية والوجودية جانبًا، فإن الإجابة البسيطة هي أن الطبيعة تكتفي من وجودنا بعد نقطة معينة.
النجاح في الحياة، من الناحية التطورية، هو نقل جينات المرء إلى الأبناء، وعلى هذا النحو، تموت معظم الأنواع بعد فترة وجيزة من انتهاء أيام خصوبتها، فيموت سمك السلمون بعد فترة وجيزة من القيام برحلته من أعلى النهر لتخصيب بيضه.
البشر مختلفون بعض الشيء. نحن نستثمر بكثافة في شبابنا، لذلك نحن بحاجة إلى عمر أطول لمواصلة رعاية الأبناء، ثم استثمار العمر الممتد في الأحفاد، ويُعرف هذا بتأثير الجدة.
ولكن إذا كان الأجداد مفيدين للغاية، فلماذا يتوقف الحد الأقصى غالبا عند 100 عام على أقصى تقدير؟
لأن هذه المرحلة هي أقصى استثمار كان التطور قادرًا على الاستفادة منه. بعد هذا السن، لا تتكاثر الخلايا العصبية، وتتراجع العقول، وتضعف القلوب.. ونموت.
ربما يحتاج التطور للاستثمار في البقاء لفترات اطول مستقبلًا، وبالتالي يبدأ التخلص من تلك المفاتيح القاتلة تدريجيًا.. لكن حتى ذلك الحين، فالتطور كما نعرفه يتطلب الموت لتعزيز التكيفية.