رحل الطبيب الدكتور محمد مشالي بشكل خاطف، يلائم حركته السريعة الدءوب في الحياة، لم تواتينا الأخبار عن مرضه ولا عن غيابه، فجأة أتى أمر الله!
محمد مشالي ربما عرفت الأَضواء طريقه فى العامين الأخيرين، وربما حملت له تعويضًا أدبيًا، وتقديرًا نفسيًا، ومكافأة معنوية عن رحلته فى الحياة، رفض معها كل العروض المالية التي جاءته، تطبيقًا لمبادئه التي اقتنع وآمن بها ورسخت بنفسه ووقرت بقلبه، بأن يذهب المال للمحتاج دونما اكتناز له من آخرين، ما أمكن ذلك!
ربما تكون وجهة نظره في الحياة غير ملائمة لغالبية البشر، وربما هي مثالية مفرطة بنيت على أحلام خيالية أقرب ليوتوبيا يصعب تطبيقها إلا من فئات خاصة شديدة الندرة، فهو يمثل حالة نادرة تستدعي تطويع نفس وتهذيب النوازع الإنسانية إلى أن تصل لمحو الذات تماما لصالح المجموع أو قطاع منه!
لكن بين الحين والحين تأتينا الحياة بأيقونات مميزة وطفرات تنكر ذاتها لأقصى درجة، ليس لنشر الوعظ أو الترويج لمذهبها السياسي أو الاجتماعي، وإنما فقط لتمارس ما آمنت به وتعتقد أنه الدور الملائم لها برحلتها الحياتية.
كثيرون يتبنون مثالية ما مبنية على مذهب اجتماعي، وغالبًا ما تكون تلك المثالية تراكم خيالات في مراحل عمرية مبكرة نسبيًا، تحمل معها فورة الهرمونات وثورة المراهقة وعناد الباكورة، لكن باستمرار الحياة، تتغير مسارات الأفراد ويبتعدون شيئًا فشيئًا عن هذا المسلك، ويفقدون مثالياتهم المنشودة كرّة بعد الأخرى.
أفكار محمد مشالي ربما أيضًا لا تتصالح مع الزمن، ويصعب الارتكان إليها فى تشكيل وتأسيس المنظومة الاقتصادية، في حياة سريعة قاسية كتلك التي نعيشها. لهذا ربما لم يسلك الرجل الطريق للأحزاب السياسية، ولم يُعرف عنه الالتجاء لطريق النشاط السياسي، أو الخطب الرنانة، رغم أنه يُمثل النموذج التطبيقي العملي، الذي يطمح إلى تنفيذه أصحاب الخطب الحماسية والنشاطات النقابية والعمالية.
لكن الرجل بلغ من رسوخ إيمانه بأفكاره، أن يتجاوز مرحلة ترديد الشعارات، إلى مرحلة استغلال فرصة إمكانية التنفيذ العملي الواقعي، دون تكرار للشعارات طالما لم تكن هناك حاجة للخطب. فلم يبلغ عنه مريض أنه حاول توجيه أفكاره مثلًا لاتجاه ما، أو تجنيده لدعوة ما أو دعاه لسماع خطبة أو لقاء، كما يفعل كثير من المؤدلجين أصحاب الأغراض.
لحسن الحظ قابلنا شخصا يمثل النموذج النادر الذي لا يدعو بقدر ما يُطبّق. وقد بلغ الرجل منتهى فكرته، فلم يكن ممكنًا دعوة الآخرين للاقتداء به، وإلا يصبح تكليفًا بما لا طاقة لأحد به، فمشالي نتاج تجربة ذاتية فردانية شديدة الخصوصية شديدة الندرة في وجودها!
هذا النموذج يمكنك من خلال مشاهدته فقط، أن تعي وتفكر وتتدبر، تقبل أو ترفض ما يفعله، دون أن يبلغ أذنيك درسًا توعويًا واحدًا من مانيفيستو سياسي أو ديني! فقط تشاهد وتتدبر هذا الدرس الحي، وتبدي رأيك!
لحسن الحظ أن قابلت نموذجين على المستوى الإنساني، قريبي الحال من الدكتور محمد مشالي على المستوى الإنساني، أحدهما أطال الله عمره ظل يقبل كشفًا بخمسة جنيهات، على أثر قصة مر بها بطفولته، ثم رفع قيمة الكشف بعد ضغط وإلحاح ومشكلات مع أبنائه في كبره، الذين رأوه يخرج عن الزمن، مرددين: أن الحياة بهذا الشكل تلفظ من يتغاضى عن مسايرتها!
والآخر الراحل الجليل الدكتور سامي عبد الفتاح طبيب الجلدية والتناسلية بمحافظة الغربية. وقد عاش يعمل إلى أن تجاوز السبعين من عمره، طغت عليه علامات السن، وهو طبيب جلدية نابه من النوع الذي يصفه المصريون بـ “الأروبة” ضعيف النظر، يرتدي نظارة طبية سميكة ذات موديل قديم، معلقة بسلسلة فاقدة لونها في رقبته، يفحص عبرها المريض الجالس قبالته عن قرب شديد، يحدد لمريضه تشخيصا دقيقا، لا يخطئ على الإطلاق، يحدد لك دواءك ويشرح لك مرضك بدقة ودون ملل أو ضجر ومدة علاجك المتوقعة واحتياطاتك اللازمة، ثم يشرح لك كيفية وضع الكريمات العلاجية، إما مسًا وإما دهانًا، عبر أنبوبة لهذا الغرض دائما بدرج مكتبه يستخدمها كنموذج إرشادي!
كانت قيمة الكشف لديه زهيدة ثم رفعها لعشرين جنيها لسنوات طويلة، واخيرًا استقرت على مبلغ 25 جنيهًا. وبهذا المبلغ يمكن للمريض الكشف وإعادة الكشف أسبوعيًا مدى الحياة مجانيًا مهما طالت مدة مرضه، حتى يشفيه الله، فهو لا يرى أن متابعة الحالة تستحق أن تكون بمقابل مادي.
في حالة ما إذا كان المريض قد سبق له الذهاب لطبيب آخر وشخّص له حالته وكان تشخيصه متفقًا مع ما يراه الدكتور سامي، في هذه الحالة يخرج مظروفًا أبيض من مكتبه به المبلغ قيمة الكشف ويعطيه للمريض، باعتبار أنه لم يقدم له جديدًا، قائلا بهدوء: تشخيص الدكتور كان صحيحًا، ويعطيه روشتة العلاج دون مقابل.
يمكنك مناقشته في أمر مرضك وتاريخ ظهور المرض، والفارق بين علتك وبين غيرها من الأمراض المقاربة، وتطور طرق علاجها، وكيف درسها بكلية الطب، وهكذا بكل هدوء واحترام لمريضه!
عيادته تقع بمنطقة شعبية مزدحمة، كراسي الانتظار خشبية بسيطة من تلك التي تقابلك بالأفراح والمقاهي القديمة، صالة وغرفة بهت طلاؤها بالزمن، لكنها شديدة النظافة، أما غرفة الكشف فتفتقد أية مظاهر للحداثة، فبها لوحة خشبية مثبتة بأحد الجدران بها مصابيح تقليدية تساعده في تقييم الحالة بدقة بالإضافة لعدسة مكبرة دائم الاستخدام لها، وحوض مياه صغير لغسيل يديه عقب كل حالة.
يمكنك أن تقابله بسوق شعبي متوكئًا على عصاه، يحمل خضروات أو يشترى طيرًا للطعام من بائعة ريفية، ممارسًا حياته بأبسط الطرق!
نموذج نادر رحمه الله ظل يعمل حتى أتى أجله، في حالة مقاربة، وإن كان محمد مشالي أكثر شدة على نفسه، وشيخ طريقة ليس بها غيره!
أخذ البعض على الدكتور محمد مشالي رثاثة مظهره، وعدم عنايته الشخصية بشكله أو بحالة ملبسه ونظافته. وهو نقد في محله، إن لم يكن لأجل مراعاة المظهر المقبول، فلأجل الصحة العامة لشخصه وللمترددين من المرضى، وربما كان هذا الحال مرتبطًا بكبر سنه وخروج بعض الأمور عن نطاق السيطرة الذهنية من صاحبها.
ولكن هذه لقطة بسيطة على شدة تأثيرها، إذا ما قورنت بباقى شريط حياة الرجل، ولا يمكنها بحال أن تفسد باقى سيرته أو تقضي عليها.. هذا النبيل المتفرد، شيخ الطريقة التي ليس بها مريد واحد، ولم يرغب فيما يبدو أن يجعل له مريدين.. فلم يكن العمر الممتد وحده كفيل بإثبات إخلاصه لمذهبه بطول سنينه، وإنما الموت أيضًا دليل دامغ على انقضاء حياته دون أن يغادر مبادءه.