هل الحسد قاتل؟ أشعة بلوتارخ والتأويل الديني الذي ينكره القرطبي وابن الهيثم | عبد السميع جميل

هل الحسد قاتل؟ أشعة بلوتارخ والتأويل الديني الذي ينكره القرطبي وابن الهيثم | عبد السميع جميل

11 Aug 2020
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

الإيمان بتأثير الحسد بمفهومه الأسطوري إحدى أكثر الظواهر الكاشفة لرجعية وبدائية طريقة تفكيرنا. وبينما كان الإنسان البدائي ينسب ظواهر العالم لآلهة الشر، نتوجس نحن من الأصدقاء والأقارب، ونؤمن أن لديهم قوة خارقة قادرة على إصابتنا بالشرور لمجرد رؤيتهم لما حققناه من نجاحات ومكاسب وممتلكات.

خرافة الحسد العابرة للزمن والدين

خرافات الحسد لها جذور في الهندوسية واليهودية والمسيحية والإسلام ومختلف الأديان والثقافات.

حتى فلاسفة الإغريق أنفسهم روجوا للأمر نفسه بداية من أفلاطون وحتى بلوتارخ الذي قال بوضوح: “عين البشر قادرة على إطلاق أشعة غير مرئية، كانت في بعض الحالات من القوة بحيث أهلكت الأطفال والحيوانات الصغيرة”.

وبسبب كل هذه الروافد الفكرية والدينية والاجتماعية، انتشر الخوف من الحسد بين جميع شرائح وطبقات المجتمع، لا يستثنى منها غني أو فقير، ولا جاهل أو متعلم، بالدرجة التي لم يعد غريبًا أن نسمع عن موت أحدهم بسبب الحسد!

الآن، ومع الإصرار على تفسير ظواهر الحياة بعيدًا عن العلم، لجأ البعض لتقديم طريقة جديدة في الترويج لخرافات الحسد من منطلقات علمية مزيفة مخلوطة بالدين، يصدرها لنا رجال دين يروجون لأنفسهم باعتبارهم دعاة تجديد وإصلاح وتنوير!

فعل ذلك الشيخ عدنان إبراهيم، فقدم تفسير الحسد الأسطوري بوصفه قوى خفية مثبتة علميًا بما أطلق عليه “علم الباراسيكولوجي” الذي قال إنه “أصبح عـلمًا محترمًا تقـريبًا”.

عدنان يعلم أن الباراسيكولوجي ليس علمًا محترمًا، وأن كل الأوساط العلمية في العالم لا تعترف به، ولا تراه علمًا، ولا تجيز دراسته أية جامعة معتبرة في العالم؛ كونه غير مبني على التفسير العلمي القائم على المشاهدة والتجربة، وتدحض جميع ظواهره الدراسات العلمية المعتبرة.

ما يجهله أو يتجاهله عن عمد دعاة وأدعياء الترويج لخرافات الحسد باسم العلم، أن الحقائق العلمية الثابتة عن طبيعة عمل عين الإنسان منذ اللحظة الأولى لاكتشاف الحسن بن الهيثم علم البصريات تذهب إلى كونها جهاز استقبال يرى البشر الأشياء من خلاله بسبب انعكاس الضوء من الأشياء على العين، وليس العكس. 

وإن كانت العين تُطلق أشعة غير مرئية قادرة على إلحاق الأذى بالآخرين فلماذا لا تستخدمها الجيوش بعمل اختبارات واسعة لمن يملكون قدرات من هذا النوع، لإلحاقهم بكتيبة تكون مهمتها النظر إلى طائرات وأسلحة العدو لتدميرها بعيونهم.

أما وأن هذا غير ممكن علميًا ومنطقيًا وواقعيًا؛ كون العين لا تُطلق أشعة من الأصل، ولا تستطيع إلحاق الضرر بالآخرين، فعلي من يربط بين العين والحسد أن يراجع نفسه.

٣ خطوات تضعك على طريق التفكير الذكي “العلمي المنهجي” | حيدر راشد

الحسد في القرآن.. مجرد مشاعر سلبية 

يُسارع كل من يُروّج لخرافات وأساطير الحسد للتحجج بأن الحسد مذكور في القرآن في آية: “وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”. ولا ينتبه أحدهم إلى المعنى.

قبل أن نزعم امتلاكنا للمعنى الصحيح لمفهوم الحسد في القرآن، لنؤكد على أن القرآن حمال أوجه، وأنه إذا كان البعض يستخدم آياته للترويج للخرافة، ويستخدم غيرهم نفس الآيات لتأويلها في خدمة العلم، في صراع صفري يكرس العقل النصي بدلًا من العقل العلمي، فإن تقديم معانٍ مختلفة للنص الديني بالغ الأهمية لأسباب كثيرة، من بينها التأكيد على عدم امتلاك البعض الحقيقة المطلقة التي يبتز من خلالها الآخرين، ويوجه ضدهم ساهم التضليل والتكفير.

ولذلك مهم جدًا تقديم معان مختلفة لتلك الآيات التي يستخدمها البعض في الترويج للخرافة وتعطيل العقل.

ومن المعاني المختلفة والوجيهة جدًا لمفهوم الحسد في القرآن أن آية سورة الفلق، تتحدث عن شر شخص الحاسد لا الحسد نفسه، وهذا فارق كبير وضخم جدًا.

الشر في الآية مرتبط بالشخص الذي يملك ضدك مشاعر الحسد والكراهية فيسعى لإفساد حياتك. أما أن يظل هذا الحاسد ينظر إليك أو لممتلكاتك قرنًا من الزمن، فلن يُصيبك بمكروه أبدًا، طالما لم يتحرك لصناعة هذا المكروه بنفسه.

القرطبي طرح هذا المعنى من قبل في تفسيره للآية، بقوله: “الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته”.

القرطبي المتوفى سنة ٦٧١هـ وضّح معنى الحسد بقوله إنه: “تمني زوال نعمة المحسود”. هذا المعنى وضع الحسد موضعه الصحيح؛ مجرد مشاعر سيئة مثل الكراهية والحقد، لا علاقة لها بالعين، ولا بقوى خفية خارقة شريرة.

هناك تفاسير خرافية أخرى للآية لا نميل إليها، كونها تُحمّل الآية ما لا تحتمل، وتربط الحسد بالعين رغم عدم وجود إشارة في الآية – أو غيرها من الآيات – عن ذلك، كما أن تلك التفاسير تزعم إمكانية تحول الحسد من مشاعر إلى طاقة وموجات غير مرئية في الهواء للضرر بالآخرين، وهو ما تعارضه الحقائق العلمية الثابتة والمؤكدة عن طبيعة عمل العين. 

مشكلتنا مع المقدس | عندما تُعمل العقل في معتقدات الآخرين ثم تتشبث بخرافاتك | دينا مريع

مساوئ الصدف ممكنة مثل محاسن الصدف

يلجأ كثيرون إلى ادعاء الفقر والمبالغة في الظهور بمظهر سيئ أو الاختفاء عن الأنظار من أجل الوقاية من الحسد انطلاقًا من حديث منسوب للنبي محمد، يقول: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود”. 

الحديث ورد عند الطبراني والبيهقي وأبو نعيم وابن حنبل، وكل هؤلاء قالوا إنه حديث ضعيف وموضوع ومتروك وإسناده منقطع، وجاء عن طريق أكثر من شخص كذاب. ومع ذلك، فالحديث منتشر ومعمول به رغم تناقضه الواضح مع آية: “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ”.

حتى الحديث المنسوب للنبي في البخاري ومسلم، أنه قال: “العينُ حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابَقَ القَدرَ، سَبَقَتْه العينُ”!. يتناقض مع آية: “قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا”. ويتناقض مع الأحاديث الأخرى التي تنهي عن التشاؤم، ويتناقض أيضًا مع العلم الذي أثبت أن العين مجرد جهاز استقبال فقط، لا يفلق حجرًا ولا يقتل بشرًا.

إذن ما تفسير تلك الكوارث الكثيرة التي يراها البعض ناتجة من الحسد مثل انكسار شيء عندما يُظهر شخص إعجابه به؟ 

الحقيقة أنها كوارث ناتجة ببساطة شديدة من محض الصدفة! هذه الكوارث مثلها مثل مقابلتك شخص في نفس لحظة تفكيرك به، ومثل نطقك نفس الكلمة مع المذيع في التليفزيون في نفس الوقت. كلها صدفة يحاول العقل المتخلف إرجاع سببها إلي قوى خفية خرافية لا علاقة لها بالحقيقة.

 هناك كوارث كثيرة أيضًا يُفسَر وقوعها بسبب الحسد، ويرجع سببه في الحقيقة لإيمان المصاب نفسه بالفكرة الخرافية للحسد!

الإيمان المفرط يُترجم تلقائيًا في صورة تصرفات متوترة ومتخوفة ومرتبكة دائمًا، ينتج عنها كوارث بطبيعة الحال، والعين بريئة تمامًا من تلك الكوارث التي لا يمكن أن تتوقف أبدًا إلا إذا حررت عقلك من تلك الخرافات والأوهام.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك