أثر أزمة السويس 1956 المعروفة في مصر بـ “العدوان الثلاثي” تجاوز حدود القاهرة والمنطقة بأسرها.
أعاد تشكيل الخريطة الدولية، ليس فقط في ذلك الحين باكتمال سقوط إمبراطوريتي فرنسا وبريطانيا، بل تواصل وقعها شديد الوطأة على نفسية ساسة بريطانيا في كل العصور التي تلتها، حتى وصفتها مرجريت تاتشر بـ “Suez Syndrome” أو “عقدة السويس”.
المعالجة التي تحصر قضية العدوان الثلاثي في مسألة تأميم قناة السويس تثبت خطأها تباعًا.
فمع الإفراج المتوالي عن وثائق الدول التي تدور في فلك هذه القضية، يظهر أن القضية كانت أكبر،
أخطر جوانبها خروج مصر عن سيطرة بريطانيا الأمنية والاستخباراتية، الأمر الذي أدى إلى الهزيمة السياسية وسقوط رئيس الوزراء، أنتوني إيدن، في لندن.
في هذا الملف نجمل سرد وقائع ما حدث من خلال حكاية في دقائق، ثم يقدم مينا منير، الباحث بجامعة لوزان بسويسرا، الجانب الخفي من ملف السويس. هل كانت مؤامرة سياسية متكاملة الأركان؟
نظرة أعمق
في دقائق معدودة يمكنك أن تلم بأبعاد أزمة السويس: كيف نشأت؟ كيف رسمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل خطة إيقاع مصر في المصيدة؟ ثم الموقف الصادم للسوفييت. والموقف الأكثر صدمة – لحلفائها الغربيين – من جانب الولايات المتحدة.
بعد هذا الإيجاز، يأخذنا مينا منير في جولة مثيرة بين ثنيات وثائق تطالعها للمرة الأولى. ثم لك أن تحدد إن كانت أزمة السويس في حقيقتها مؤامرة سياسية متكاملة الأركان؟
لم تكن استقالة إيدن إلا البداية لمحاولة فهم تلك الحرب الخاطفة وغير مفهومة الدوافع والأهداف.
رسميًا، كانت الحجة الأساسية التي ساقها رئيس الوزراء البريطاني لحشد موافقة مجلس العموم للتحرك العسكري هي منع الحرب القائمة بين مصر وإسرائيل من تعطيل الملاحة في قناة السويس.
وبالتالي، فلم تكن بريطانيا، بحسب إيدن، إلا وسيطًا (يهدئ النفوس) بين إسرائيل الباغية على سيناء وعبد الناصر الذي يهدد بغلق القناة.
إيدن رأى أن استعادة نفوذ بريطانيا يستلزم فرض سيادة الـ MI6 في مصر، فشكل لجنة مخابرات مشتركة خلصت في تقريرها، المنشور منذ وقت قريب، إلى أن الحضور المخابراتي في مصر بات عقيمًا.
هنا أطلق إيدن مع المخابرات، وبدون العودة للحكومة، العملية الكبرى Triple Duty لتنفيذ الخطة التالية:
زرع خلية بريطانية داخل مصر تحت غطاء إعلامي.
التواصل مع العناصر المحلية المعارضة للتمهيد لانقلاب استغلالًا للسخط الشعبي.
لأن الانقلاب سيكون دمويًا، ستتدخل بريطانيا لضمان استقرار الوضع، وتستعيد قواعدها العسكرية.
الجانب الأخطر في تبعات السويس – بحسب التقارير المتتالية بعد الحرب – هو الشعور بالمهانة (لم يخل تقرير من اصطلاح humiliating defeat) الناتج عن الشعور بأن بريطانيا وفرنسا يمكن أن يخسرا ظهيرهما في الحرب الباردة، وهو الولايات المتحدة.
هذا الشعور المهين كان دافعًا للبدء في تسلح أوروبا نوويًا.
يُظهر تقرير سري للمخابرات الأمريكية في مايو 1957 – أي أثناء وضع الإجراءات النهائية لإعادة فتح قناة السويس – أن فرنسا من ضمن أربع دول تعمل على تصنيع سلاحها النووي، إلا أنها الوحيدة التي تملك المواد الضرورية، متوقعًا امتلاكها رؤوسًا نووية خلال عام واحد.
لم تكن أزمة السويس مجرد قضية محلية. البعد العالمي للأزمة تجاوز الآراء المتعارضة حول قرارات القيادة المصرية التي سبقت “العدوان الثلاثي”. كانت حدثا استثنائيا تاريخيا مؤذنا بأفول قوى عظمى وصعود أخرى.