في بداية عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، لم يفرض سيطرته على كامل الدولة الإسلامية، بل نازعه فيها عبد الله بن الزبير، الذي استولَى على بقاعٍ شديدة الحيوية في بدن الدولة؛ أهمها بلاد الحجاز.
بموجب وجود ابن الزبير في مكة، تحكّم في حركة الحج، وتكالبت عليه الوفود من كافة الأنحاء، لأداء مناسك الحج تحت حُكمه ورعايته، ما يُعدُّ بيعة غير مباشرة له بعيدًا عن الأمويين، فمنع عبدالملك بن مروان أهل الشام من الحج.
بعدها فكّر في تدشين بناء جديد يُناظر به الكعبة، فأنشأ مسجدًا فوق الصخرة التي تقول رواية الإسراء والمعراج إن النبي ارتكز عليها في صعوده إلى السماء، وصنع له قبّة ذهبية مغرية، ودعا الناس إلى الحج إليه بدلاً من الكعبة!
وبحسب الدكتور عادل حنبل في بحثه "عبدالملك بن مروان وآراؤه النقدية"، ففي هذا التوقيت، أُعيد الترويج للحديث النبوي "لا تُشد الرحال إلا لثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا (يقصد المسجد النبوي)"، من أجل إضفاء صبغة شرعية منطقية على قرار تحويل الحج إلى قبة الصخرة.
يقول حنبل: علّق الخليفة على قبة الصخرة ستور الديباج، وأقام لها سدنة، ووجه الناس بأن يطوفوا حولها بدلاً من الكعبة.
ووفقًا لكمال الدين سامح في كتابه "العمارة في صدر الإسلام"، فإن عبدالملك بن مروان أنشأ قبة الصخرة ليس فقط لمنافسة ابن الزبير، وإنما أيضًا لمنافسة المسيحيين الشوام الذين يمتلكون مزارًا دينيًا عظيم البناء، وهو كنيسة القيامة.
يقول كمال الدين، إن ابن مروان لم يختر هذا المكان عبثًا، فقبل بناء "قبة الصخرة"، حظيت هذه الأرض بتقديس كبير من المسلمين حتى أنهم أطلقوا على المكان بأسره لقب "الحرم الشريف".
صُمِّمت "قبة الصخرة" لتكون مزارًا أو مشهدًا دينيًا، ملائمًا للحجاج الذين سيفدون للطواف حول الصخرة المشرّفة!
حاوَل الحاكم بأمر الله الفاطمي استغلال حالة الازدهار التي بلغتها الدولة الفاطمية في عهده، وتحوّل القاهرة إلى إحدى أهم عواصم العالم، لأن يُعيد طرح فكرة "نقل الحج" مُجددًا، وهذه المرة إلى عاصمة الخلافة؛ القاهرة.
يحكي محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر"، أن الحاكم شيّد في المنطقة الواقعة بين الفسطاط والواقعة 3 مشاهد لينقل إليها رفات النبي محمد والصحابيين أبي بكر وعمر، وذلك بهدف تحويل أنظار المسلمين عن مكة والمدينة لصالح القاهرة، وجعلها مدينة مُقدسة يُشدُّ إليها الرحال.
سنة 390هـ، كلّف الحاكم أحد ولاته لتنفيذ هذا الأمر، وبالفعل أرسل مجموعة من الرجال للحفر تحت منزل الرسول فقاومهم أهل المدينة. وفي رواية أخرى، قامت في المدينة ريح شديدة لحظة التنفيذ اعتبرها الرجال المعنيون بتنفيذ تكليف الخليفة الفاطمي علامة غضب إلهية فكفّوا عن المحاولة.
ويضيف ياسر بكر في كتابه "الثقافة الشعبية.. وتشكيل العقل المصري"، أن الفاطميين انتقوا مواقع المشاهد الثلاثة بدقة، لتكون قريبة من جبل المقطم، الذي طمحوا أن يكون بديلًا عن جبل عرفات.
بدءًا من عام 281هـ قويت شوكة حركة القرامطة المعارضة للخلافة العباسية في البحرين، بعدما لم يستطع الخليفة العباسي المعتضد أن يقضي عليها، بسبب اضطراب أحواله في بغداد، وسيطرة الأتراك على مفاصل الدولة.
يقول سعدي علي في بحثه "أثر حركة قرامطة البحرين على الحج"، إن زعيم القرامطة أبو سعيد الجنابي استقل بمنطقة البحرين، وعجزت جيوش الدولة العباسية الضعيفة عن انتزاعها منعه، فازداد أبو سعيد قناعة بقوته، فبدأ يحاول فرض سيطرته على قوافل الحجاج التي تمرُّ بطريق (مكة - العقبة) كوسيلة للحصول على الأموال وإعلان السيادة.
بعد وفاة أبي سعيد، اتّبع ولده أبو طاهر ذات السياسة، لكنه أقدم على خطوة أكثر جرأة عام 317هـ، حين هاجَم مكة، وسلب كسوة الكعبة واقتلع الحجر الأسود من مكانه وعاد بهما إلى البحرين.
ويضيف سليمان السلومي في كتابه "القرامطة وآراؤهم الاعتقادية"، أن أبا طاهر بنى في هجر دارًا عظيمة سمّاها دار الهجرة، وأراد نقل الحج إليها، فزوّدها بالحجر الأسود حتى لا تفوقها الكعبة في شيء!
لم تنجح مساعي القرامطة، ولم تتحول بوصلة الحج إليهم لسنواتٍ طوال أبقوا فيها الحجر الأسود بحوزتهم، سنوات مات فيها أبو طاهر دون أن يتحقق أمله، ولما يأس القرامطة من تحول الحج إلى هجر ردّوا الحجر إلى محلّه في مكة سنة 339هـ.
وبحسب كتاب "مكة وعلاقاتها الخارجية" لأحمد الزيلعي، فإن هذه لم تكن المحاولة القرمطية الوحيدة لصرف الناس عن الحج إلى مكة، مؤكدًا أن قائدًا قرمطيًا آخر هو علي بن الفضل، ما أن استفحل أمره باليمن حتى قطع طريق الحج اليمني، وقال للناس: "حجوا إلى الجرف، واعتمروا إلى الأثلاث".
كتاب “العمارة في صدر الإسلام”، كمال الدين سامح، ص 26
عبدالملك بن مروان وآراؤه النقدية، عادل حنبل (بحث)
كتاب “تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر”، محمد سهيل طقوش، ص 96
كتاب “الثقافة الشعبية.. وتشكيل العقل المصري”، ياسر بكر، ص 88
أثر حركة قرامطة البحرين على الحج، سعدي علي (بحث)
كتاب “مكة وعلاقاتها الخارجية”، أحمد الزيلعي، ص 120