في أوائل الستينيات، لمع اسمع المؤرخ الشاب هشام جعيط إثر دراساته العميقة عن تاريخ “ولاية أفريقيا إبان القرن الثاني للهجرة”، والتي منحته شهرة في الأوساط الثقافية المغاربية.
لكنها لم تأتِ عليه بالخير بعدما وُضعت نشاطاته تحت الميكروسكوب الأمني، وهو ما كلّفه صدامًا مع الحبيب بورقيبة نفسه، الذي اعتبره “رائد التيار اليساري في الجامعة”، ليهرب بعائلته إلى فرنسا.
في باريس، حظي هشام جعيط بوظيفة مرموقة كباحث في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) في مجال تاريخ القرون الوسطى، ليحظى بفرصة الانفتاح على مشارب فكرية مكنته من التحرر من القيود التي كبّلت الفكر العربي.
أبرز تجليات التحرر كانت معارضة هشام جعيط القاطعة لفكرة الوحدة العربية التي تبناها الناصريون والبعثيون، ليكون الثمن حصارًا منع نشر أطروحاته في غالبية الدوريات العربية، ليتأخر تعرف الكثير من الناطقين بالعربية على أعماله.
لكنه واصل تحليل علاقة الغرب بالإسلام. لينشر دراسته “أوروبا والإسلام” في 1978، وتزامن هذا مع تحول الإسلام إلى حديث العالم ببدء اشتعال الثورة التي أقامت الجمهورية الإسلامية في إيران في 1979.
لم يكن تهافت الميديا لمعرفة رأيه فيما يحدث غربيًا؛ كونه المؤرخ الذي سبق إلى بحث التقاطعات بين الدين والسياسة في الإسلام المُبكر، وتحديدًا اللحظات الحاسمة في التاريخ الإسلامي: لحظات تكون المؤسسات الإسلامية الأولى – لحظات الصراعات الدينية في عهود الخلفاء – تجليات الثورات في الدول الإسلامية.
وإجابة هشام كانت: “الإسلام كان دائمًا دينًا سياسيًا. والإسلام السياسي ظاهرة على العالم أن يتعامل معها”.
نبيل فاروق | لغز كوكتيل نتجاهل أهميته حتى اليوم | حاتم منصور
سعى هشام جعيط لإعادة تقديم العلمانية للناطقين بالعربية بشكل جديد.
يقول: “نحن ندّعي العلمانية، بمعنى أننا نعتقد بضرورة الفصل الجذري بين التشريع الديني والمؤسسات الاجتماعية. لكن لهذه العلمانية حدود، حيث نعترف بالعلاقة الجوهرية بين الدولة وعناصر السلوك الأخلاقي والاجتماعي وبين العقيدة الإسلامية. نؤيد بقاء هذه العقيدة ونؤيد إصلاحها، لكن لا يجب أن يتم الإصلاح على حساب الدين”.
اعتبر هشام جعيط أن لحظة “اكتمال الدين” تشريعيًا كانت يجب أن تكون الخطوة الأولى نحو “علمانية إسلامية”؛ فإن كان مقبولًا أن يتدخل الخطاب الديني في دقائق حياة الناس في لحظات التأسيس، فهذا الخطاب يجب أن يتراجع فور استكمال لحظة البناء، وأن يفسح للعلمانية المجال لبناء الدولة، مع التأكيد ألا تسمح العملية برؤية رجل دين يخضع المجتمع لأفقه الاعتقادي، ولا لرجل دولة يسعى لإخضاع الدين لمصلحة المجتمع، وهو ما أسماه “العلمانية المفتوحة”.
عارَض هشام جعيط أنصار التحديث الديني، الذين يتواكبون مع قيم العالم الحديث باقتراحات يدّعون لاحقًا أنها متوافقة مع مقاصد الشريعة، لكن الفقهاء قديمًا عجزوا عن الوصول إليها، في ما اعتبرها “حيلًا فقهية تتماهَى مع الحداثة بليِّ أعناق النصوص”.
بدلاً من ذلك، دعَا إلى التعامل مع القرآن كـ “نص تاريخي” لا يُنظر إليه بمعزلٍ عن سياقه التاريخي.
يقول: “من الأفضل أن يقبل المرء فكرة أن القرآن كلام مقدس، وأنه شرّع في ظروف تاريخية واجتماعية معيّنة، وهو ما يبعث في الوقت نفسه على رفع كل اتهام بالرجعية عن القرآن”.
ووفقًا لهذا المنطلق، لم يهتم هشام جعيط بأن تتطابق محاولات التحديث مع نصوص الدين أو حتى القيم الأوروبية، ليكون المحرك الأساسي لأي عملية إصلاح هو كونها “ضرورة مجتمعية”.
في توصيفه للإسلام، اعتبر هشام جعيط أنه “قوة تاريخية، وبذلك صار ظاهرة مجتازة للتاريخ”. هذا التعريف يتعلّق تحديدًا برؤيته لماهية الدين، ولكيفية إجراء تجديد عميق للبنية الدينية.
اعتبر أن تاريخية الدين التي أكسبته قدرًا هائلًا من النفوذ في محيطنا الاجتماعي أكبر عائق أمام حرية الإنسان واستقلاليته.
وكعادته، قدّم هشام جعيط رؤية شديد التركيب للدين؛ لم يُنكر المكتسبات الإنسانية التي حققها البشر من ممارسته، لكنه استنكر أي قيم دينية قيّدت سعي الإنسان نحو التطور.
يقول “من حُسن الحظ أن الإنسان خالف – باستمرار – الدين، وإلا لسُحقت الحياة. لكن الدين هو الذي ربّى الغرائز وأنسن الإنسان، ولولا هذا العمل لكان الماضي البدائي مجرد دعارة شبقية وعنفًا”.
بمعنى آخر، اعتبر أن الدين “روح لبشرية ما زالت في الطفولة”، هذه الروح تستطيع أن تتخلّص من أعباء مراسمها ما أن تتعدى مرحلة الطفولة.
من هذه الجملة الدلالية، نفهم أن هشام جعيط اعتبر أن الدين مرحلة تعين الإنسان على النجاة من لحظاته الأولى الموحشة والصعبة على الأرض “حيث كان يُخشى عليه الإغراق في دهشة تُسَمّر بصره إلى الأرض لا غيره”، هذه اللحظات ستتحسن بالتدريج كلما تطورت اجتماعيات الإنسان وعاش في المدن وأقام المجتمعات وعرف عهودًا حديثة من التطور والمعرفة.
هذا التطور سيقود الإنسان إلى اصطدام حتمي بالموروثات الدينية الآتية من الماضي.
يقول: “بما أن الدين مرتبط بالماضي، فإن عناصر كثيرة يتضمّنها لا يقبلها العقل إطلاقًا، لا الفكر ولا حتى ذهنية الإنسان الحديث، فقد أبرز العلم والفلسفة والنقد التاريخي بديهيات تُهاجم النواة الدينية في ذاتها”، الحل إذن، هو دمج الدين مع مقتضيات العصر، وأن يسعى الفكر لتطوير وجوده باستعمال التفكير والفلسفة والنقد التاريخي والانصياع لضرورات الاجتماع، حتى لا يُصبح الإيمان محصّلة جهل وجمود، بل تفاعُل مستمر مع الحداثة والتعاطي معها دون الارتكان إلى مسلّمات إيمانية تجاوزها الزمن.
ولهذا يرفض هشام جعيط فكرة وجود مبادئ ثابتة للإسلام؛ ببساطة لأنها ستصطدم آجلاً وعاجلاً بحركة التطور الاجتماعي.
وبالتالي، فهو لا يدعو إلى تعديل أو إعادة إحياء مبادئ دائمة للإسلام، بل لـ”إقرار مبادئ مستقلة، لا مانع من إتمامها ضمن المركب الإسلامي”، وهي عملية يراها شديدة الصعوبة بسبب رسوخ “الطبقة التحتية الدينية”،
لكنه أمر اعتبر أنه يُمكن إزالته بالتدريج عبر ترسيخ مبدأي “الحرية” و”العلمانية المفتوحة” في المجتمع، اللذين يؤمن أنهما قادران على تقديم تأويلات جديدة ومناسبة للدين.
وحيد حامد | أحلام الفتى الكاتب وكوابيس الواقع المصري | حاتم منصور
يتبنّى هشام جعيط مفهومًا معقدًا لهذه العلاقة: عارض أن تكون الدولة علمانية “لا تهتم بمصير الدين” أو تكون ثيوقراطية تتلاعب بالدين “لغايات سياسية”. لكنه شدّد على “وجوب الإبقاء على الإسلام دينًا رسميًا للدول العربية”.
اعتبر أن على الدولة أن تطور أدواتها المستقلة بمعزلٍ عن المرجعية الدينية، على أن تكفل التعددية الأيدولوجية لجميع مواطنيها، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، معتبرًا أن تدخل الدولة في الأمور العقدية سيؤدي لخلل في مفهوم “الضمير العام” عند المواطنين.
يقول “كل إكراه صادر عن الدولة لفرض الإيمان والممارسة الدينية على الفرد يجب أن يُماثَل بِاغتصاب للضمير”. وهكذا يعتبر جعيط أن الدولة يجب أن يكون لها دين، لكنها يجب أن تضمن حرية الدين لأفرادها حتى لو عارضوا دين الدولة.
ولم ينسَ هشام جعيط أن يفرّق بين الدولة والمجتمع، فيعتبر أن الدولة نتاج شبكة العلاقات المعقدة التي تحكم المجتمع، ولهذا يعتبر أن الشكل النهائي للدولة يُعبِّر عن الأصل الكامن في طبيعة الشخصية العربية للإنسان العربي. وهنا فإنه يوجِّه اللوم للمواطن العادي في كل إجراء تسلطي أو غير عقلاني يفرضه الحاكم؛ لأن هذه التصرفات ما كانت لتخرج لو لم تكن “ترجمة سياسية حتمية لبنية الأنا النرجسية التي لا تستطيع الخلاص من المادة البشرية التي تستخدمها” لإنتاج مثل هذه القرارات الاستبدادية.
اتهم المجتمع العربي بالعجز الشامل في كل مناحي الحياة، واعتبر حكامه “كائنات غير قابلة للتغيير” لأنهم من نبت تربة الشعب الذي زرع بذور الديكتاتورية وسقاها بيديه: “لا يكون لأي شعب إلا الحكام الذين هو جديرٌ بهم في نظر التاريخ”، معتبرًا أن كل تغيير لا ينطلق إلا مع وعي عميقٍ للذات وممارسة واسعة للنقد الذاتي.
وجّه هشام جعيط في أطروحاته انتقادات دائمة للحكام بسبب الجفاء مع المفكرين، وهي العلاقة التي لا مفر منها في أي مسعى لبناء الدولة.
فالسياسي هو “رجل الواقع” أما المفكر فـ “رجل الحقيقة” الذي يُمّثل “رسالة المجتمع” وهو ما يجعله في حالة تنافسٍ مع السياسي الذي يمثّل المجتمع برمته وليس رسالته المُثلى وحسب.
من هنا يأتي التباين الذي عاشته المنطقة بين المفكرين والسياسيين. يقول: “ليست المأساة الكبرى للمفكّر العربي أن يُشاهد تدهور ماهو سبب وجوده وحسب، بل أن يُمنع أيضًا من إنجاز رسالته المدنية التي هي في النقد وروح النظر، ومن الغريب أن الأنظمة العربية عبأت كافة قواتها للحديث عن مبدأ العدل الاجتماعي، وأغفلت مبدأ آخر يكتسي بنفس الجمال، ألا وهو مبدأ الحرية”.
برأي جعيط، اعتبر أن مبدأ الحرية كان ليحلَّ أغلب مشاكل مجتمعاتنا؛ لأنه يمسّ “النواة الأخلاقية للمجتمع”، ولأنه يقود الإنسان لرفض وصاية الدولة وليسترد عقله، وهو نهج ترفضه الحكومات الاستبدادية، وفق ما يعتبره هشام جعيط “نزعة استبدادية في المجتمع” هي ذاتها التي تقاوم الحداثة والتصنيع والتنمية والتعليم وأي نمو في الأفق الإنساني،
هذه الكتلة البشرية، تحديدًا، هي أكبر تحدٍّ قد يُواجه أي عملية تحديث في المجتمع، وهي مشكلة لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية حتى الآن.
وهو ما حاول التعبير عنه بشكل مكثّف بقوله “العالم العربي يعيش معوقات للتنمية الاقتصادية، كالتشريع الديني وعلائق الهيبة وبعض البنى الذهنية، وهو ما جعل هذا المجتمع تلقيديًا مدة طويلة”.
تايم لاين في دقائق: رحلة المساواة في تونس من بورقيبة حتى السبسي