أفلام إبراهيم عيسى | وقد اعترف المتهم أنه صاحب رأي وموقف من الحياة | أمجد جمال

أفلام إبراهيم عيسى | وقد اعترف المتهم أنه صاحب رأي وموقف من الحياة | أمجد جمال

4 Aug 2020

أمجد جمال

ناقد فني

سينما مصرية
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

ثلاث قصص قدمها إبراهيم عيسى للسينما في السنوات الأربع الأخيرة: مولانا – الضيف – وأحدثها صاحب المقام.

أفلام منسوبة لكاتبها في المقام الأول، باختلاف مخرجيها ونجومها، ليس لأنه إبراهيم عيسى نجم الصحافة والإعلام السياسي الأكثر إثارة للجدل وحسب، بل لأن هناك ما يجمع تلك الأفلام من زاوية موضوعية تنتمي للكتابة.

كلها أفلام تشبه كاتبها بصورة أو بأخرى، وهو ذلك الشبه الذي لا يكف البعض عن التهديد به وكأنهم “جابوا التايهة” وفضحوا البدعة والضلالة، ووجهوا صفعة لا تقوم بعدها للأفلام قائمة؛ لمجرد أن صاحبها يعبر بها عن نفسه!

مولانا والضيف حققا نجاحًا نسبيًا في دور العرض، بينما انتزع صاحب المقام نجاحًا فائقًا وملموسًا مع عرضه على منصة مشاهدة إلكترونية، واحتل التريند الأول في أيام عيد الأضحى.

سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع

أفلام إبراهيم عيسى تشبه صاحبها

خطوات إبراهيم عيسى السينمائية برغم أنها تثري الصناعة بصورة لم تعد تقبل التشكيك، لكنها لا تقابل بخطاب نقدي حسن النية أو مستعد للفهم، ناهيك عن التفهم، فدائمًا ما تثار حول أفلامه سحابة كريهة الرائحة من آراء المتربصين القدامى والخصوم السياسيين، لدرجة تزيد من مشقة عملية الدراسة الموضوعية لقصصه وأفلامه، وفرز الرأي الصادق من المتحامل: من كره الأفلام فعلًا، ومن يكره إبراهيم عيسى وأفكاره ونجاحه قبل كل شيء؟ وهم كثر لأسباب معروفة.

في مشهد من فيلم الضيف تخاطب الزوجة ميمي زوجها الكاتب التنويري يحيى التيجاني، فتقول إن الناس على السوشال ميديا منقسمة حوله؛ نصفهم يراه داعمًا للدولة، ونصفهم يراه يهدمها.. نصف يراه عالمانيًا معاديًا للدين، لكن النصف الآخر يزايد على عالمانيته ويراها عالمانية مزيفة.

يسهل إسقاط حوار كهذا على إبراهيم عيسى. ليس لوضوح نبرة الكاتب عن نفسه في كل أعماله، لكن لأن إبراهيم عيسى هو بالفعل أشهر المثقفين المعاصرين الذين انقسم الناس على تصنيفهم بنفس القوالب التي شرحتها ميمي.

الانقسام يزيد من كارهيه ويفرق دمائه على القبائل، فهو عصي على التصنيف. تقييمه يحتاج لدراسته قطعة بقطعة وموقفًا بموقف، ورأيًا برأي، وهو أمر يثير عصبية المؤدلجين الكسالى والكارهين بالفطرة.

ذلك الانقسام انعكس بالضرورة على تجربته السينمائية. فالسهام متنوعة المصادر. كعلامة، ستجد من يقول إن مولانا والضيف أفلام تنويرية تشتبك مع الموروث الديني المتخلف، ومن يرى أن صاحب المقام يروّج لموروثات دينية متخلفة من نوع آخر.

ستجد من يقول إنه منغمس على ذاته لدرجة أن أفلامه مُكبر صوتي لأفكاره، ومن يقسم لك أن أفلامه مسروقة من أفلام أجنبية، أو أنها لا تحمل قصصًا وأفكارًا من الأصل.

فمن هو إذن إبراهيم عيسى في كل هؤلاء؟

لكل مخرج عرّابه ومريدوه.. خمس”رومانسيات” بين عظماء الإخراج | أمجد جمال

نقد متعسف: أفلام مقالية

للإنصاف، هناك من لا يحملون أي ضغائن لعيسى. لكن ارتباط اسمه بعالم الصحافة والخطابة وكتابة المقالات يثير لديهم توجسًا مسبقًا تجاه أعماله القصصية، روايات كانت أو سيناريوهات أفلام، البعض يعتبر قصصه “مقالية”، يقصدون “موجهة” و”مباشرة” وتتبنى قضية سياسية من التي كان يطرحها في مقالاته.

لكن هذا الانتقاد متعسف لثلاثة أسباب:

الأول:

السمات التي يقصدونها بالمقالية موجودة في كلاسيكيات نحبها لكبار الأساتذة. أليس ما قدمه وحيد حامد سينما مقالية بنفس المعايير؟ هل من فروق جوهرية بين “مولانا” وبين “دم الغزال” أو مسلسل “الجماعة”؟! هل خلت أفلام وحيد حامد من الخطب والمونولوجات والحوارات الموجهة؟

لو كنت تستنكر فأنصحك بالعودة لمونولجات نبيلة عبيد في “الراقصة والسياسي” أو سوسن بدر في “احكي يا شهرزاد”، وعد لتحدثني عن مباشرة أفلام إبراهيم عيسى.

هل خلت بعض أفلام وحيد حامد من الرسائل المعلنة بشكل صريح زاعق؟ كلا، فرسائل كثير من أفلامه تصاغ بشكل جمل حوارية علنية على لسان الأبطال.

هل منعنا ذلك من الوقوع في حب هذه الأفلام أو صنفناها بالسينما “المقالية”؟ على العكس، هي وقرينها التلفزيوني المتمثل في نصوص أسامة أنور عكاشة.

ما هي البدعة التي أتى بها إبراهيم عيسى إذن؟!

تلك المقالية المزعومة ليست إلا تصنيفا لشكل من الكتابة القصصية، وليست انتقادًا سليمًا في ذاته. ذلك الشكل توقف عند إبراهيم عيسى وأصبح فجأة سيئ السمعة. ولعل أحد الأسباب وجود تجربة فعلية له في الإعلام والصحافة، بينما لم نعتد قراءة المقالات من الكتاب الآخرين.

وانعدام القدرة على الفصل هنا تمثل مشكلة عند المتلقي والناقد المرتاب لا المؤلف.

الثاني:

نفي وجود أي صلة بين كاتب المقال والقصاص ينطوي على جهل بتاريخ الاثنين؛ فعيسى لم يكن الأول ولن يكون الأخير. ولأن القائمة أطول من التصور، سأذكر ذائعي الشهرة فقط:

جورج برنارد شو كان يكتب المقالات السياسية والاجتماعية والفنية، في الوقت الذي يكتب قصصه ومسرحياته، وكانت متأثرة بأفكار مقالاته.

نفس الأمر ينطبق على كتاب الوجودية الفرنسية، من سارتر لكامو، والأخير كان يفصّل من الفكرة الواحدة مقالًا ومسرحية ورواية.

ومحليًا المسألة نفسها ممتدة، من طه حسين مرورًا بإحسان عبد القدوس وحتى أحمد رجب. وهنا أتحدث عن المبدأ مع تفاوت المستويات، لأن الاعتراض أصلًا على المبدأ.

إذن، ما سر ظاهرة التعامل بتوجس مسبق وتحسس المدافع النقدية تجاه كاتب المقال/ القصاص فقط حين يكون إبراهيم عيسى؟

سبب آخر مرجح هو موضة ورش وفصول تعليم الحكي والنقد في هذا العصر، تملأ عقول مرتاديها بالكليشيهات عن تجنب الكليشيهات، وتمدهم بالقواعد الأصيلة لكتابة القصص، حتى باتت تفرز ثقافة بغبغائية في التعاطي مع الفن وممارسته، فحوّلت الناقد لميكانيكي والمؤلف لتاجر حواديت وبات الحافظون أكثر من الفاهمين، جميعهم يسير بكتالوج، أول درس فيه أن كتابة السيناريو تختلف عن القصة ومن ثم فالقصة مختلفة عن المقال، وبالتالي أي شبهة لاقتران بينهما تستفز الحافظ ليكشف لنا عما قرأه في الصفحة الرابعة في الباب الثالث من كتاب قواعد السيناريو.

الثالث:

حين يفعلها فيليني أو شاهين أو حتى وودي آلن الذي يأتي بالممثلين ويجعلهم يقلدون حركاته وانفعالاته العصابية في أفلامه، وقتها نسميها “ذاتية” ونبجلها ونعظمها، ولكن حين يفعلها أخرون من “المحليين” وغير المرضي عنهم نسميها “توجيه” و”انغماس”!

لاحظ أن تلك الثقافة النقدية البغبغائية غير مهتمة بتناول العلاقة بين أفكار الكاتب وقصصه بمبدأ الدراسة ولكن بمبدأ الشخصنة والرفض تحت شعار “آتوا لنا بأصحاب الأدمغة الفاضية ليكتبوا القصص”.

مبدأ ألا يكون للقصاص شخصية ظاهرة أو مشروع فكري بادعاء أن ذلك يجعل الفن موجهًا مبدأ مسموم؛ لأنه ينزع الإنسانية من بعض التجارب الفنية، ولأن غياب الشخصية عن كُتاب السينما حاليًا أصبح هو القاعدة بالفعل لدرجة خلقت مشكلة بغياب تنوع الأصوات والبدائل.

لا مشكلة بوجود تجار الحواديت، وهم موجودون ومسيطرون في كل العصور، المشكلة أنه منذ القدم كان تاجر الحواديت يعمل بالتوازي مع المؤلف ذي الشخصية صاحب الهم والقضية، أما أن نخلي الساحة لأحدهم على حساب الآخر بدعوى الفن الصافي المتجرد فهذا يؤسس لساحة إبداعية غير متوازنة أو صحية.

أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام

ما هو المعيار؟

ليس دفاعًا عن المباشرة أو التوجيه، لكن لم أجد في أفلام إبراهيم عيسى قدرًا زائدًا من المباشرة والتوجيه عن المعتاد في إنتاجات السينما المصرية القديمة والحديثة.

هي نفس الجرعات القياسية التي تعودنا عليها وصارت مقبولة. المعيار الفاصل لدي هو العنصر البشري في تلك القصص وإلى أي مدى يورطنا معه الكاتب. من هنا الحكم إذا كنا أمام قصة أم مقال.

في الضيف مثلًا، لم أترقب في المناظرات الدينية بين يحيى (خالد الصاوي) وأسامة (أحمد مالك)، نتيجة فكرية بانتصار العالمانية أو الثيوقراطية الإسلامية. لكنني ترقبت مصائر تلك الشخصيات في هذه الليلة الواحدة التي تدور فيها الأحداث.

تأثرت بالدراما المتصاعدة وبالتفاصيل التي تنهال لتخلق الأزمة تلو الأخرى وتعقدها.

هناك أسرة مهددة بالقتل، وقبلها أسرة تكتشف عن نفسها وأفرادها خبايا لم تكن معلومة.

الفيلم ليس عن الأيدولوجية بل عن العلاقات الإنسانية التي تأثرت بالأيدولوجية حتى بين أقرب الناس، ليست الأفكار نفسها بل إلى أي مدى يستطيع الإنسان التمسك بأفكاره إن كانت حياته وحياة من يحبهم هي الثمن.

هذه ليست فكرة مقالية بل فكرة قصصية معنية أولا بشخوصها، وقد تكون معنية بقضايا أخرى فرعية. وهذا من حق الكاتب إن لم يؤثر على صلابة الدراما، ما لم يحدث فعلًا.

مولانا، فيلم مزحوم القضايا، وهي خطيئة التجارب الأولى عموما لأي قصاص، المشكلة هنا ليست “المقالية” بل قد تكون “المقالاتية”. ورغم ذلك فالخط الرئيسي للفيلم غير معني فعلًا بالخطاب الديني والدعوة وصراعات الفرق والمذاهب والملل بقدر ما هو معني بالضغوطات والتحديات التي يواجهها البطل من كل اتجاه.

السؤال الرئيسي هنا لم يكن عن الإسلام الصحيح أو الأسلوب الأفضل للدعوة من وجهة نظر إبراهيم عيسى، بل السؤال إلى أي مدى سيصمد حاتم في مواجهة كل تلك السيوف المُشهرة في وجهه، كيف سينجو من مكائد أعدائه وقبلها من تناقضاته وهواجسه النفسية؟

رغم كل عيوب الفيلم فقوام القصة حاضر ورسم الشخصية راسخ.

فن كتابة السيناريو.. 5 نصائح من كاتب The Social Network آرون سوركين | أمجد جمال

تصالح صاحب المقام

أزمة يحيى في صاحب المقام ليست الإيمان أو عدمه بكرامات الأولياء، لكن الأزمة في كيفية تحوله من شخص أناني لا يؤمن إلا بنفسه إلى شخص يتأثر ويتعاطف ويحب، وهي تيمة قصصية وليست مقالية.

ولم يكن الأولياء والخطابات والأدعية والأضرحة إلا وسائل درامية كي يدخل البطل في رحلته الكلاسيكية ويخوض التجربة التي ستغير شخصيته.

هل يروّج الفيلم للخرافات؟

لم أجد ذلك، وصناع الفيلم نفوا الفكرة بالتويست الدرامي الأخير حين نعلم أن الزوجة كانت تفتعل الجزء الأكبر من أزمتها، ما يعني أن اللعنة التي كانت تطارد البطل لعنة زائفة، مجرد سوء فهم ليتمادى البطل في خط سير رحلة تعلمه.

صحيح الفيلم يتصالح مع مفهوم الروحانية ضد المادية بصورتها الفظة الجامدة، لكنه يقدم تفسيرات مقبولة لاحتياج الإنسان إلى تلك الروحانية حتى لو كانت “وهم”، والأهم أن هذا الطرح يأتي كجزء من قوام القصة فيبرز أزمات البطل ويلبي احتياجاته.

أفلام عيسى متفاوتة المستوى، وأظن الإخراج مسؤول عن هذا التفاوت، أعتبر الضيف التجربة الأنضج والأفضل في الثلاثية ولمخرجه هادي الباجوري لمساته التي صنعت الفارق، بعكس لمسات محمد العدل في “صاحب المقام” والتي أراها انتقصت بعض القيمة من النص.

أما لمسات مجدي أحمد علي فجاءت أكثر تكافؤا وتوافقا مع النص الروائي، لم تضف أو تنتقص الكثير.

نقطة القوة في أفلام إبراهيم عيسى أنها عن شخصيات تتعلق أزماتها الكبرى بأفكارها، حين تكون القناعات عبئًا يستلزم من الإنسان الشك وإعادة النظر في مواقفه من الحياة، سواء كانت القناعات إيمانية أو إلحادية أو لااكتراثية.

الميزة هنا أننا أمام سينما لا تروّج للأفكار يقدر ما تشرّح الأفكار وتتساءل بجرأة غير معهودة عن نفعية القناعات والأفكار لحاملها.

هي ميزة طبعًا يتناساها المنتقدون بنظرتهم الضيقة لهذه التجربة، فنحن ضقنا وضاقت السينما بقصص الفقراء “الحلوين” والأغنياء “الوحشين” والسلطة “الفاسدة” والشعب المغلوب على أمره.

هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك