وفقًا لأسطورة شهيرة من مصر القديمة، لم تكن الأرض في بدء الزمان سوى "نون"؛ محيط أزلي لا نهائي من الماء المغلف بالظلام. ثم خلق إله الشمس نفسه في صورته الكاملة مستقرًا على تل فوق الماء.
استشعر إله الشمس الوحدة فخلق إله الهواء "شو" وإلهة الرطوبة "تفنوت".. ومنهما ولدت إلهة السماء "نوت" وإله الأرض "جب".
ومن اتحاد جب ونوت، ولدت الآلهة الأربعة: أوزوريس وست وإيزيس ونفتيس.
إيزيس وأزوريس لعبا دورًا حيويًا في منظومة معتقدات مصر القديمة: فبينما كان أوزوريس يمثل الوعد بالحياة الأبدية، كان كل ملوك مصر القديمة من نسل إيزيس (وهذه هي التسمية اليونانية أما اسمها المصري آست Aset الذي يعني العرش)
قُتل أوزوريس، ثم أحيته شقيقته إيزيس. ثم حكم ابنهما حورس الأرض بعدما انتصر على ست.. ليصبح الثالوث الإلهي (أوزوريس وإيزيس وحورس) رمز شرعية وقوة للجالس على عرش مصر في النظام السياسي الذي استمر لـ 3 آلاف عام.
كانت إيزيس "عظيمة السحر"، تملك القدرة على إعادة الموتى إلى الحياة... تروي النصوص المصرية القديمة مرارًا قصتها في إحياء أخيها أوزوريس.
هذه المأسأة التي قهرتها إيزيس جعلت منها إلهة عطوفة إنسانية لا يقتصر الوصول إليها على كبار الكهنة، بل إلهة قريبة تسمع المناجاة وتملك القدرة على حل مشكلات الحياة اليومية. ولذا كان المصريون القدماء يتوسلون إليها في الشدائد.
يوثق باب "شفاء جميع الأمراض" في بردية طبية قديمة دعاء لإيزيس: "يا آست العظيمة. اشفيني. نجني من كل شر كما نجيت ابنك حورس"
كان أحدهم إذا أراد أن تحبه امرأة سأل إيزيس أن ترزقها حبه كما أحبت هي أوزوريس، وإذا تاه آخر سألها ألا تتخلى عنه بطول الطريق.
واعتقد القدماء أن لها القدرة على زيادة الخصوبة وتسهيل الولادة والحب والشفاء والسفر والحياة الأبدية.
باختصار، أعطت الأمل لملايين المصريين في مدد إلهي حاضر متى احتاجوه. في ممارسة ظلت حاضرة في المعتقدات الشعبية إلى يومنا هذا.
آمن المصريون القدماء بحكمة إيزيس، وبأنه لا يخفى عليها شيء في الأرض ولا في السماء، بعدما اكتسبت إيزيس قواها السحرية المذهلة من إله الشمس "رع" الذي منحها سلطاته. حيث اشترطت عليه في مرضه لكي تشفيه أن تعلم اسمه الأعظم الذي لا يعلمه غيره. الاسم الحقيقي اللازم للشفاء
لذلك، قيل أن لديها عشرة آلاف اسم. من بينهم: سيدة الجنة. الأم الإلهية، ملكة كل الآلهة والإلهات والنساء، سيدة الفرح، سيدة الحب، سيدة الوفرة، الجميلة، الجبارة، المحبوبة.
ولأن المصريين القدماء تمكنوا بسهولة من دمج إلهين في إله واحد، فقد اتخذت إيزيس تدريجياً صفات آلهة أخرى، لا سيما من حتحور.
في الأصل، كانت إيزيس تعبد في المعابد مع آلهة آخرين، لكن مع الوقت شُيدت المعابد المخصصة لها في المراحل المتأخرة من الحضارة المصرية؛ إشارة إلى تضاعف أهميتها.
في الترنيمة المدونة على أعمدة بوابة معبد إيزيس في مدينة ماضي "نارموثيس" بحدود الأول قبل الميلاد، كتبوا:
كل البشر الذين يعيشون على الأرض اللامحدودة، التراقيون واليونانيون والبرابرة، يعبرون عن اسمك العادل المكرم بين الجميع، وإن كان كل واحد يتحدث بلغته الخاصة على أرضه.
يدعوك السوريون: عشتروت، أرتميس، نانايا.
تدعوك القبائل الليقية: ليتو ، السيدة..
يسميك التراقيون أم الآلهة. واليونانيون يدعونك هيرا العرش العظيم، أفروديت، هيستيا الطيبة، ريا وديميتر..
لكن المصريين ينادونك "ثيوس" لأنهم يعرفون أنك واحد، وأنك كل شيء
ونظرًا لكونها شخصية إنسانية أمومية، لم يكن صعبًا على غزاة مصر في المراحل التالية أن يتوجهوا إلى عبادة إيزيس منذ غزو الإسكندر الأكبر الذى نتج عنه سبعة قرون من الاحتلال اليوناني، ثم الروماني لمصر.
اعتبر اليونانيون أنه يمكن أن يجعلوا إيزيس يونانية بسهولة، وعُرفت باسم ديميتر في اللغة اليونانية. لتبدأ عبادتها في اليونان من القرن الرابع قبل الميلاد
وفي عهد الرومان، أصبحت إيزيس إلهة عالمية.. كان هناك معبد لسيرابيس في أثينا ومعبد صغير لإيزيس عند سفح الأكروبوليس.
في روما، كانت عبادتها "ديانة غامضة" في البداية، وبعد حلقات القمع والتدمير، حمى الأباطرة حماية عبادة إيزيس وسيرابيس (أوزوريس-أبيس).
وبحلول القرن الثالث الميلادي، ظهرت العديد من المعابد المقدسة لإيزيس وسيرابيس في روما.
يُعتقد أن معبد إيزيس مصدر محتمل لاسم باريس من الكلمة اليونانية "quasi par Isis"، ويقال إن تمثال إيزيس كان يزين كنيسة باريسية حتى 1514.
وتشهد النقوش على وجود معبد إيزيس في لندن، ولا تزال إيزيس اليوم اسمًا بديلًا لنهر التايمز.
وعثر الباحثون على تماثيل برونزية لسرابيس وحربوقراط، زوج إيزيس وابنها، في مناطق بعيدة مثل أفغانستان وباكستان، حيث كانت عبادة إيزيس هي الأكثر انتشارًا في العالم القديم.
صور الأباطرة الرومان أنفسهم كامتداد لحكام مصر القديمة على نقوش المعابد المصرية، وحضر بعضهم احتفالات دينية مهمة في مصر.
إيزيس نفسها حصدت ألقاب بينها إيزيس أوغستا وحاكية الإمبراطور، وصورت على عملات معدنية رومانية..
لكن، وبينما كانت إيزيس توسع سطوتها كأحد حماة أحد أكبر الإمبراطوريات في التاريخ. بدأ السقوط مع ظهور المسيحية وتبنيها في الإمبراطورية الرومانية رسميًا، ليبقى آخر نقش هيروغليفي يتضمن اسم إيزيس على جدران معبد فيلة 394م، بعنوان "كاهن إيزيس الثاني، إلى الأبد"، وآخر سجل مؤرخ على عبادتها بتاريخ 456 ، قبل إغلاق معبد فيله لعبادة إيزيس 535، ليأمر الإمبراطور البيزنطي جستنيان بتدمير المعبد، ووضع الكهنة تحت الحراسة، وأرسل التماثيل إلى بيزنطة، قبل أن يتحول المعبد إلى كنيسة.
مع ذلك، يتناقش المؤرخون حول ما إذا كان إرضاع إيزيس لحورس قد أثر في تصوير مريم ويسوع في التقليد المسيحي الذي تأخر عن ظهور المسيح لعدة قرون.
يقول مؤرخون إن عبادة إيزيس ترافقت في نفس المناطق مع بدء المسيحية، ومنها استوحى المسيحيون الأوائل نموذجًا لتصوير مريم ويسوع.. لكن غيرهم يقولون إن أوجة التشابه لم تكن إلا "مجرد صدفة".
رغم جهود محو عبادة إيزيس، بقيت إلهة مصر القديمة حاضرة بفضل كونها جزءًا من الثقافة اليونانية والرومانية التي أعيد اكتشافها خلال عصر النهضة، لتصور إيزيس وأوزوريس على سقف شقة بورجيا (مجموعة من الغرف في القصر الرسولي في الفاتيكان، التي كيفها البابا ألكسندر السادس للاستخدام الشخصي).
ثم أتاح فك شامبليون لرموز حجر رشيد قراءة القصة المصرية الأصلية مجددًا.
وتظهر شعبية إيزيس عالميًا في استلهام اسم Isidoros أو Isidora "هدية إيزيس" في تسمية الكثير من المدن، من الولايات المتحدة إلى الأرجنتين والفلبين، كما أطلقوا على نوع من مرجان أعماق البحار اسم إيزيس.
كما أطلقوا اسمها على الشعرى اليمانية "سيريوس"، وعلى فوهة القمر، وفوهة بركان آخر على قمر جانيميد التابع لكوكب المشترى.
ليصبح من المستحيل محو إلهة مصرية قديمة عمرها خمسة آلاف عام من التاريخ، بعدما انتشر إرث إيزيس في جميع أنحاء العالم، في أعماق المحيطات، على القمر، وفي الفضاء.
الإلهة إيزيس: حقائق رائعة عن أم كل الآلهة (ذا كوليكتور)
ترانيم يونانية ومصرية لإيزيس (Attalus)
بردية إيبرس (Hathitrust)