نظر محمد هنيدي إلى نفسه، في مسلسل أرض النفاق، بأسى وقال: “كل الناس دي بقت بتحبني (بتعاملني كويس) علشان قوي”.
ولا أدري موضع العجب في جملته. الإنسان يولد عاريًا، غير واضح الملامح. ثم ينمو وتنمو معه مجموعة من الصفات على أساسها تتحدد نظرة الآخرين له.
بعض الصفات طباع. لن نتعرض لها.
وبعضها الآخر قابلة للتنمية، ويتمايز الإنسان بها. من تلك الصفات المكتسبة الغنى، القوة، النشاط، الشطارة، الرشاقة، الثقافة.. إلخ.
ومنهًا أيضا كل الصفات النقيضة لتلك. التنبلة والهزال والفقر والكسل…
إن كنت ضعيفًا، فقيرًا، فاشلًا، لن يبالي الناس بك، لا حبًا ولا كرهًا. وهذا طبيعي. لأنك لم تتميز بشيء يلفت نظرهم، وليس من المنطقي أبدًا أن يبالي الإنسان بكل هذا العدد من حوله. هنجيب مبالاة منين؟
ومن الممكن أن يتحول موقعك عندهم من عدم المبالاة إلى عبء، لو قصُرت قدرتك عن كفالة نفسك ومن تعول.
سعر الحياة الحلوة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
في حيلة نفسية، تحاول مجتمعات تعزية الفشل أن تقلل من قيمة الصفات المكتسبة، وأن توحي بأنها صفات لا تستحق التقييم على أساسها:
إن أحسن الناس معاملتي لأني قوي فبئس التقييم تقييمهم، وإن أحسنوا معاملتي لأني ناجح أو غني فبئس التقييم تقييمهم.
إن أحبني فلان لأني جميلة فما أكذب الحب. وإن أحبتني فلانة لأني وسيم فهذا حب بلا قيمة.
لماذا تحبك إذن يا فلحوط؟! ومن أنت إن لم تكن عبارة عن مجموعة من الصفات الدالة – عادة – على غيرها؟
هنا يظهر جوهر الخدعة. جوهر الخدعة محاولة رد الحياة كمثل ولدتها أمها. رد الحياة إلى اللحظة التي ينطبق عليها المثل “كلنا أولاد تسعة”. والتوقف هناك. حيث كل الأطفال عرايا، يصرخون، فيهم مقومات الحياة. أما ما بعد ذلك فنجهل ما سيفعل كل منهم بمقومات الحياة تلك، سنعرف مزاياه التنافسية المكتسبة.
الآن نجهل، لكن غدًا نعرف. أليس كذلك؟
لا … إزاي..
لا بد لكي يكون الحب صادقًا أن يجرد الإنسان تمامًا من مزاياه المكتسبة، مزاياه التنافسية. وأن يُحب على “شيء ما” لا يخضع لأي معيار تقييم.
شيء ما جوه، جوه، جوه خالص. إلى درجة أننا لا نعرفه. أمه نفسها لا تعرفه.
شيء ما موجود في اللمبي الأهطل، الذي يسكعه الناس على قفاه في الطلعة والنزلة. لكنه بقدرة قادر صار حلال المشاكل العبقري. ليس فقط في “اللي بالي بالك”، ولكن أيضًا وهو “تتح ٨ جيجا”.
وصناع الأفلام عندنا لا يسخرون من الفكرة، كما الحال في فورست جمب مثلًا، لا. نحن هنا نعبر بمنتهى الجدية عن ثقافة تحتفي بذاك الإنسان المجرد من مزاياه.
ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق
في التعليم نريد امتحانات في مستوى الطالب المتوسط. أي يستطيع الطالب المتوسط أن يحلها. ويفقد فيها الطالب المتميز ميزته التنافسية.
في الانجذاب الجنسي نريد نساء مطموسة الملامح. فتفقد النساء الجميلات ميزاتهن.
في العمل نريد معيارًا لا ينتمي إلى الكفاءة. ربما يكون الأقدمية العمرية. أو ربما يكون أبناء العاملين. المهم أن يكف الجميع عن جري الوحوش، ويدركوا، ويتأكدوا، أن غير رزقهم لم يحوش. وهذا تحدد خلاص في شهادة الميلاد.
في البزنس نريد سقفًا يحدد الصعود.
في السكن نريد أن يكون “كله زي بعضه”، فلا مناطق متميزة، ولا جوارات الحيز العام فيها أحلى. المجهود المبذول في تجميل منطقة نتجاهله. ومن طرف خفي وعلني نعبر عن نفسية تطارده، قبل أن نعود إلى بيت قبيح وقذر في شارع قبيح وقذر.
والحياة الطبيعية لا ترى أن ذلك حسن.
بين السياسة والبيولوجي: غرائزنا التي حيرت أديان السماء والأرض| رواية صحفية في دقائق
الصفات التمايزية ليست موجودة في الإنسان فقط. بل بين السيارات. وبين القمصان. وبين الكنب. وبين المناظر المرئية من البلكونات. وفي أسفلت الشوارع. كلها بمعايير محسوسة، يمكن تقييمها.
إن أحبك رجل أو أحببتك امرأة، على هزالك وفقرك، فقد حدث الحب، رغم الهزال والفقر، وليس بسبب الهزال والفقر. وغالبًا لأنك – إن صحت نفسية الطرف الآخر ولم يكن الانجذاب سببه مشكلة فيه – أظهرت من الصفات التمايزية الأخرى ما غلب على هذين العيبين. كأن تكون موهوبا مكافحا فيأمل فيك المحب خيرا.
لقد ظهر فساد النفس والرؤية في الكاتب والسيناريست والموظف.
ثم ازدهر. بعد أن أعطاه المثقف اليساري وقوده المعنوي. فحول هذه النظرة التي تجرد الإنسان من التمايز إلى كلام مرتب منمق. ومنحها كم شعارًا من اللي قلب الفاشل يحبها.
وأعطاه السياسي الاشتراكي وقوده التنفيذي. فجرد مالك العقار من ثمرة كده. وحرم الغني من ثمرة تعبه تحت اسم العدالة. وأعطى “اللي سايبها على الله” مكافآت يكد من أجلها المكافح سنوات من عمره، بينما يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
انظر حولك. إن أردت أن تكون مثل أمريكا فعلًا كما تقول، الفساد منبعه أنا وأنت. هذا هو الفساد بعينه.
أولئك هم الرابحون .. كيف يتفاعل الاقتصاد ونفسية المجتمع | خالد البري | رواية صحفية في دقائق