في السياسة، ما أسهل اللجوء إلى الشعارات الأخلاقية. مريحة للنفس ومربحة مع الجمهور. لكنها ليست حقيقية، ومن الصعب أن تحافظ على اتساقك مع شعارك. السياسة كغيرها من الأنشطة البشرية لها معاييرها.
في موضوع ولي العهد السعودي وقضية جمال خاشقجي – مثلًا – السياسة مدفوعة بتقييم لدور محمد بن سلمان في السعودية. وليس لدوره في القضية محل النظر، كما تقول صحيفة وول ستريت جورنال في افتتاحيتها. (التقريير لا يقدم دليلا مباشرا، بل يعتمد في حكمه على دور ولي العهد في صناعة القرار في السعودية).
لو ارتكزنا على هذا المعيار، كما تضيف الصحيفة، لكان على جو بايدن محاسبة فلاديمير بوتين على كل معارض طاردته الدولة الروسية، ومحاسبة قيادة الصين على كل ما حدث في هونج كونج، وأخيرًا محاسبة رعاة الإرهاب في طهران التي يغازلها بايدن.
لكن هذا لا يحدث. لأنه ليس معقولًا. فلماذا تلجأ الولايات المتحدة إلى غير المعقول مع محمد بن سلمان بالذات؟ هنا نأتي إلى الحديث “السياسي”.
لا بد أن الديمقراط بالذات غاضبون بشدة من محمد بن سلمان. تعودنا من الولايات المتحدة أن تلجأ إلى ابتزاز السعودية كلما وضعت مصلحتها ومصلحة جوارها كأولوية سابقة على استراتيجية أمريكية. وهذا طبيعي ومتوقع من أي قيادة وطنية. التحالف لا يعني أبدًا “الطاعة التامة”.
مر غضب كهذا حين حجز الملك فيصل النفط دعما لمصر وسورية (مزيد من التفاصيل هنا). وشهدنا ابتزازًا أمريكيًا للسعودية حين عارضت غزو العراق، وتسليمه إلى طهران، بناء على تقرير كاذب ومضلل عن حيازة العراق لأسلحة نووية (تقرير صادر عن سي آي إيه أيضًا).
وقتها ابتزت السعودية بادعاء دور لها في أحداث ١١ سبتمبر، لمجرد أن منفذي الهجوم كانوا سعوديين في الأغلب. أو لأنها دعمت قديمًا المجاهدين الأفغان. الدعم الذي تحدث عنه محمد بن سلمان صراحة، مذكرًا العالم بأنه كان بناء على طلب من الولايات المتحدة في صراعها مع الشيوعية.
بوجه عام، أرادت طائفة من سياسيي الغرب من الحليف السعودي أن يتحول إلى خزانة تمويل لمشاريعه، في أفغانستان، في العراق، وفي لبنان. حتى لو كان هذا يخدم خصوم السعودية.
من هنا نفهم سبب الموجة الحالية من الضغط على السعودية. وبالتحديد على شخص محمد بن سلمان.
السبب واضح. تحدثت عنه إلهان عمر في حديث مع قناة الجزيرة.
السعودية لم تستجب للاستراتيجية الأمريكية المسماة بالفوضى الخلاقة، وهي الربيع العربي وملحقاته. طبعًا إلهان عمر تصفها بأنه “الطموح الديمقراطي” في الصومال .. وتقصد به حركة الشباب الإسلامية. وفي السودان. وفي ليبيا. تخيل!!
لكننا نعرف أن الموضوع أساسًا كان أكبر من ذلك. نعرف الدور السعودي في مصر. امتد من أيام الملك عبد الله. والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عبر عن امتنانه لهذا الدور بأكثر من طريقة. لكنه اتخذ شكلًا آخر مع صعود وزير الدفاع ولاحقًا ولي العهد محمد بن سلمان الذي تعهد باضطلاع السعودية بالحفاظ على مصالحها، وبنقل المعركة إلى ميدان انطلاق الهجمات عليها.
هنا يجب أن نلاحظ أن عاصفة الحزم انطلقت بمباركة من أوباما، وبمشاركة من تركيا وقطر. لكن السعودية أدركت أن ما يحدث في المنطقة أوسع. أدركت أن مشروع “الديمقراط” ينطوي على شق ثقافي يمهد لتسليم عقول المجتمعات، ومن ثم السلطة فيها، لتيار العثمانيين الجدد. بعد أن سلم المجتمعات الشيعية لطهران، وكافأها على سلوكها التخريبي بالاتفاق النووي.
بإدراك السعودية هذا انتقلت من المصلحة الآنية في حماية حدودها، إلى المصلحة العليا بالوقوف في وجه هذا المشروع،. سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. أنهت مشاركة قطر في التحالف، وبدأت تغيرات اجتماعية بإيقاع يغبطها عليه من حولها، إلا العناصر المحلية الداعمة، ومنهم جمال خاشقجي نفسه، الذين لم يقولوا يومًا كلمة مديح في إجراءات كانوا يدعون من قبل تأييدها والدعوة إليها.
وانطلقت الشبكة الإعلامية العالمية من التحالف “الإسلامو يسارجي” ضدها. من قبل جريمة خاشقجي، ومن بعدها. كل الموضوع أنهم امتلكوا قميص عثمان.
بالنسبة لنا نحن أهل المنطقة، يجب أن نكون قادرين بعد كل التجارب التي مررنا بها على التفرقة بين السياسة وبين الشعارات المرفوعة. أن تدرك الدول التي استهدفها مشروع أوباما إردوغان، وأن يدرك مواطنوها، حقيقة العالم. الإعلام رأس حربة مشاريع سياسية، وقادر على تحويل الصورة الذهنية كما يشاء. وقادر على أن يمهد لمكافأة دولة ترعى الإرهاب يوميًا، وتنفق على عشرات الميليشيات، وعلى تشويه أخرى ارتكب أفراد فيها جريمة واعترفت بها، وتحملت مسؤوليتها.
إن أدركنا هذا تعلمنا أن الخطوة التي لا تمسنا مباشرة الآن ستكون بداية لهجمة علينا نحن أيضًا.
يد السعودية سيفها كان لنا. يد مشروع الديمقراط وفلول العثمانييين سيفها أثكلنا، وأثخن فينا. لا يتساويان.
عقوبة خاشقجي | تقرير بلا دليل يرضي التقدميين .. لكن هل يحقق مصلحة أمريكا؟ | ترجمة في دقائق
صراع ٣ يوليو خارج الحدود المصرية: أمريكا والخليج | س/ج في دقائق
رسالة من جهيمان العتيبي إلى محمد بن سلمان .. رواية صحفية في دقائق
كيف دخل إلى هناك وكيف خرج إلى هنا.. جمال خاشقجي المفقود في الترجمة | خالد البري