برحيل المفكرة المصرية نوال السعداوي تكون صفحة هامة في مسيرة الفكر في مصر قد طويت.
يرجو خصومها أن يكون غلقها أبديًا، وهو لسوء حظهم ما لن يحدث؛ فعلامة نوال السعداوي الأبرز كانت تعاطيها مع الأطر الاجتماعية والدينية المتماسة مع حياة الإنسان على الأرض، والمؤثرة سلبًا في نمط تفكيره ومعيشته وحريته وتقديره لذاته واحترام المجتمع له، وتصديها لكل فكر يعكر صفو الحياة، مهما بلغ تمسك المجتمع بهذا الفكر. وهو واقع سائد متجذر بقوة، كنتاج لتفاعل الثقافة الدينية السائدة مع الإنسان، مما يعطي لكتاباتها دورًا مستمرًا في التصدي لتلك الأفكار.
على عكس نماذج فكرية نسائية سائدة، كانت نوال السعداوي بعيدة تمامٍا عن طرح نموذج للمرأة تظهر فيه بجمالها أو عبر استعراض مظهري، بل كانت دعوتها معاكسة تمامًا، وكان لها موقف ضد أبسط الأمور، كأدوات التجميل النسائية، باعتبارها افتعالًا غير مبرر، كما أنها قاومت فكرة تسليع الجمال وتقييمه ماديًا.
ورغم أن طرحًا كهذا كان يمكن أن يأتي لها بنقط تماس مشتركة مع خصومها أصحاب المنهج الديني، إلا أن أمر تسليع المرأة لا يمكن بحال أن يرفضوه تمامًا، فهو جزء أصيل من أطروحاتهم وإن غلفت بغلاف شرعي يضع حول التسليع أطرًا من الهيبة والقداسة.
وقد صعبت مواقفها تلك على خصومها مهمة اتهامها بترويج الانحلال والتهم المعتادة المكررة، ولكنهم رأوها خصمًا عنيدًا وصموه بمعاداة الدين ككل.
نوال السعداوي تمثل وجهة نظر نادرة، ترفض أن تمسك بالعصا من المنتصف، أو أن تحاول تقديم رؤية متوافقة، أو تلجأ للتأويل المفرط، أو توازن بين المنقول والمعقول.
بل حمّلت المعتقدات ما شاء أصحابها أن يحملوها دون أن تزيد شيئًا، وقدمتها لهم مرة أخرى دون أي إضافات، فصرخوا في وجهها منزعجين: نحن لسنا هكذا ولا ديننا بهذه الصورة.
من التحرش إلى قضايا ازدراء الأديان .. التطرف لا يفنى ولا يستحدث من عدم | خالد البري
والسعداوي – بعيدًا عن صلابتها وجرأتها فيما طرحته وكتبته، بل وقالته سردًا على شاشات التلفاز دون مواربة – فهي نموذج يخشى دعاة النقل والاتباع من انتشاره.
فالمتأمل لتجربة نوال السعداوي يرى أنها شخص تفاعل عقلًا مع تجربته منذ بدء حياته، ولم تستطع تجاوز ما تعرضت لها من إجحاف وضرر، وكان لها من الإرادة والقوة العقلية والظروف التعليمية أن تبني موقفًا رصينًا، يتصدى بقوة لكل ما فرض عليها منذ الصغر، ورأته ظالما لطفولتها وأنوثتها وعائقًا لحركة تقدم مجتمعها.
ففي طفولتها ناداها أقاربها باسم جارية كانت لجدها قديما، وبعضهم وصف ملامحها بملامح أبيها، وشبهوها بالأولاد، بل وتدعو قريباتها الله صدقا أن يقلب جنسها لولد!
عنف جسدى مؤلم عايشته بثقب أّذن الرضيعة بإبرة محماة على اللهب، ثم مرور مبكر بعملية ختان مؤلمة تصفها ببراعة كمأساة صلب المسيح وتكالب خصومه عليه لتقييده، تركت أثرًا فيها جعلها تخشى المزيد من البتر طوال حياتها، لأي ما يبرز بجسدها..
حواديت العجائز المؤلمة عن ختانهن وزواجهن المبكر وسحق طفولتهن.. الداية التي تجوب القرية تنزع من أجساد الأطفال بالموسى، وتزيل بكارة الزوجات على مسامع البلدة.
قصص خطف الأطفال الذين يرتدون الذهب فى بلدتها تحيطها، تجعلها تخلع قرطها عند كل خروج من المنزل.. هذا مجتمع إيماني وهذه سماته، لم يردعه إيمانه، يزداد خنقًا للضعيف على ضعفه، وللطفل على وهنه.
عار الجسد يلاحق نوال السعداوي بطفولتها، تجارب الشبوب من الطفولة للصبا محفوفة بالمخاطر ومكدسة بالذنوب التي حملتها دون ارتكابها.. تندمج فى الصلوات والعبادة طالبة غفرانا، لإثم لم يُرتكب.
ارتباك يأتيها مع تباشير حيضها، يتلامس مع شعور بالذنب عند قراءة الآيات الذاكرة له، تحمل أوزارًا لا تدريها، تتناهى إليها كلمة نجاسة، الأكبر من قدرة الفرد على حملها.
يستدعى الأمر استغفارًا متكررًا لطفلة لم تقرب الإثم.. التوجه المحيط يغذى هذا الشعور ويخلقه خلقًا.
تتفوق على أخيها فى الدراسة، فيكون نصيبه مكافآت مادية أكبر منها فى المناسبات، بتمييز منبعه دينى للذكر على حظ الأنثى في المال بالعموم.
منذ النشأة، تلاحظ نوال السعداوي مجتمعًا يمنح الأعضاء التناسلية أهمية قصوى في تحديد وضع الإنسان وكينونته وما يترتب عليه من وضع اجتماعي واقتصادى، يتبدى في تمييز الأطفال الذكور على الإناث، في ذات الوقت الذي يقسم هذا المجتمع أن التفكير بشأن الجنس محض نجاسة.
تتراكم الملاحظات لديها بما يملأ صفحات كتبها فيما بعد، والويل لمن يلاحظ ويرقب.
أحاديث الكبار الخاصة تحيطها بتفاصيل خصوصيات الزواج، وأحاديث اعتيادية تعظم من شأن الفتى الذي يرفع رأس أبيه دنيا وآخرة، مقابل ذم الفتاة لمجرد كونها أنثى، قد تجلب العار أو تنجب أطفالًا لا يحملون اسم أبيها! ووصف المحيطين لتلك التراتبية بأنها أمر الله الذي لا مفر منه..
يتشكل التساؤل عن كيان الطفلة والمرأة، ما كينونتها بين الخليقة؟
تساؤل العدالة يقفز مباشرة: وكيف يرضى الله هذا؟! أين العدل؟!
أي نفس سوية تأبى تلك التجارب، والنفس العاقلة تتدبر الأمر وتتساءل لماذا يحدث هذا! بينما المفكر يبدأ في تشكيل فكر مضاد لتقويم أسباب هذه المآسى!
خرجت نوال السعداوى من عقال قريتها بالقليوبية معتمدة على تجربتها وحدها، وهو عكس النمط السائد القائم على النقل من فلان عن علان، وكل الذين يجب أن نفعل كذا مثلهم!
هذا النمط يربك الخصوم. فماذا لو سارت الغالبية مثلها، وانفرط عقد الترديد المتوارث دون نقد وتحليل؟!
ماذا لو كان هناك أكثر من عقل مفكر يرفض تلك الظروف والأفكار؟!
الفكرة مرعبة.. وهو ما جعل مواجهتها تتميز بالقوة والعنف.
يمكن لأي ممن قابل مظلوميات أو غيابًا للعدالة أن يندمج بالمنظومة، ويلجأ للانتقام لذاته ممن هو أضعف منه بحلقات المنظومة، دون أن أن يخالف النسق السائد، كما جاء فى “طبائع الاستبداد” للكواكبي،
لكن القليل من يرتقي فوق آلامه محاولًا معالجة المشكلة والبحث عن جذورها، وتخليص مجتمعه منها.
لجأت نوال السعدواوي إلى تفاعل فكرى مسالم لكنه صادم عند استعراض مظلوميتها، في حين يلجأ خصومها بحجج المظلوميات إلى حمل السلاح رأسَا!
وحقيقة الحال أن السعداوي لم تتفرغ لمهاجمة الإسلام، والبادي أنها باحثة عن العدالة والحق والصواب، ومقاومة ما ترتب على تبنى المجتمع لسلوكيات رديئة قائمة على أفكار مشوشة.
فكلما اعترضتها مشكلة مجتمعية ما، عملت على التفكير في جذورها، وكلما قابلت تمسكًا مجتمعيًا بجذور المشكلة استنادًا إلى أصول سماوية، كلما غاصت فى جذور هذه المشكلات، ومن إخلاصها التام لمنهجها، لم تتوقف أو تناور حول المشكلة، بل قابلت الأسباب بالمشكلات مباشرة.
واستمرت فانتقلت بالسلوكيات الاجتماعية إلى حيث النصوص الدينية، ثم أكملت حتى أصل النصوص، فوصلت بمسرحيتها الأخيرة “الإله يقدم استقالته فى اجتماع القمة” إلى قمة الجرأة في التناول، وجمعت أكبر المؤثرين في حياة البشر بالإله مباشرة فى نص صادم، يستعرض كل أبطاله فلسفتهم في حضور جامع.
#الولاية_حقي.. صراخ الولايا ونكوص الأوليا | فيروز كراوية
وقد ساهمت نوال السعداوي بدور بارز فى مجالي حقوق الطفل والمرأة، ستذكرها لها أجيال تالية بالخير..
فالآن بعد 50 عامًا على فصلها من عملها بوزارة الصحة، تتبنى الدولة تغليظ عقوبة ختان الإناث بتشريعات قانونية جديدة.. الختان، ذلك الفعل الإجرامي الذي وجد آلافًا مؤلفة من الموالسين وأطنان الأسطر الدينية تروج له.
المفكر يسبق مجتمعه، الفائدة التي تعود على المجتمع من نابغيه، قد تتأخر ولا يجني المفكر نفسه ثمارها، لكن المؤكد أن أصحاب الأفكار الصادمة، لهم السبق في تحريك ركود المجتمع واستثارة عقول أفراده.
ولربما اندهش البعض واستنكر من ترحمات انهالت على سيدة، صرحت تكرارًا بأفكار شديدة الجرأة نحو ثوابت دينية. لكن المفارقة تعود لكونهم عبدة نصوص بالأساس، أكثر منهم باحثين عن طريق الله، فلم يقفوا عند إفادة الشخص لمجتمعه، بما يجلب له التقدير والأمنيات الطيبة بعد رحيله، بقدر ما ركزوا فى علاقة الشخص بالنص، وتمنى العقاب له!
وهو ما يوضح حقيقة مكانة الإنسان ككل في منظومتهم الشاملة المدعاة!
نوال السعداوي نموذج صريح وقوي وغير مهادن، ومثال لما يمكن أن يفعله التحجر الفكرى والديني بالإنسان الحر صاحب العقل، وإلى أي مدى يمكن للفكر أن يعادي مسببات شقائه، ويتخذ حيالها موقفًا نقديًا تصاعديًا لا يقبل المهادنة، ويستمر حتى يبلغ أقصى مدى.
التحرش والصحوة الإسلامية منافع مشتركة.. “علشان تبقي تقولي لأ! | عمرو عبد الرازق