باحث بجامعة لوزان - سويسرا
“حسنًا رستي (Rusty)، اليوم ستلتقي بأبناء بلدك”.
هكذا وعد مدير الأمن يوسف غراب صديقه العزيز فولفجانج لوتز (ناداه باسم الدلع رَستي) بلقاء الضباط الألمان، هدف لوتز الأخير.
امتزجت مشاعر فولفجانج لوتز وزوجته فالتراود بين الشغف والخوف؛ فهؤلاء الألمان هم من خيرة ضباط الرايخ. يعرفون كل صغيرة وكبيرة في الجيش، فلن يكون خداعهم بسهولة خداع المصريين.
لكن لوتز أتى لهذه المهمة التي لا مفر منها خصيصًا. لهذا، استعد بأفخم الهدايا، وببدلة بافارية يعرف أنها ستشعل في قلوب الألمان الهاربين لهيب الشوق لألمانيا التي لا يستطيعون زيارتها.
حدث اللقاء في سهرة كبيرة في منزل بحي المعادي. كان لوتز مصدومًا من العدد الكبير للضباط الألمان السكارى، الذين كانوا يغنون أناشيد الرايخ الثالث، حتى تلقفه صاحب المنزل الذي يجمع الكل حوله، وكانت هذه المفاجأة الثانية.
كان صاحب المنزل هو الضابط يوهان فون ليرز (Johann von Leers)!
فون ليرز لم يكن ضابطًا في أي سلاح فني، أي أنه لم يكن يعمل في الصواريخ أو حتى في أفرع الجيش التي جاء منها ضباط ميدانيون لمساعدة المصريين حينها.
لكنه كان أحد المنظرين السياسيين الأخطر في الرايخ الثالث..
كان ساعد جوبلز الأيمن، الرجل الذي كتب ونظَّر لفكرة إبادة اليهود وصارت كتبه مناهج للتدريس في ألمانيا. لقد كان تجسيدًا حيًا للشر والسادية.
يُخبرنا فولفجانج لوتز أنه لم يتمنَ في حياته أكثر من أن يقتل ذلك الوغد الذي كان يتباهى بالحديث عن دوره في وضع نظرية (الحل النهائي لمسألة اليهود – Endlösung der Judenfrage) وليكن ما يكون. لكن مهمته في القاهرة تطلبت ضبط النفس.
بعد السلام والحديث الودي عن مصر والوضع في ألمانيا، ابتسم فون ليرز وسأله: “هل تعتقد أنني أحمق؟ أو أن هؤلاء الضباط أغبياء لكي نعتقد أنك من تزعم أنه هو؟”
هنا انقبض قلب لوتز.. هل كشفه فون ليرز سريعًا؟
لكن فون ليرز أظهر ثقة تامة في أنه رأى فولفجانج لوتز في الجستابو، بل وانفجر في الضحك وأصر على استخدام اللقب عن اقتناع أن إنكار لوتز سببه الخوف من أن ينكشف أمره، وأن يُلاحق في ألمانيا إذا عاد.
وبذلك كان فون ليرز هو تذكرة دخول آمن للوتز في مجتمع العلماء الألمان الذين سيغتال لاحقًا عددًا منهم وسيدمر مشروعهم في القاهرة!
في نهاية السهرة، قال له فون ليرز: “كم أشتاق يا لوتز للعودة إلى ألمانيا. لكن يومًا ما حينما نحكمها مرةً أخرى، قريبًا، سنعود.. وسيعرف الجميع من هو عمر أمين”.
جاءت زوجة فون ليرز لتقول لزوجها: “كف عن استخدام هذا الاسم. إن لك اسما ألمانيا، وستعود له قريبًا في ألمانيا!”
هنا كانت المفاجأة الثانية للوتز: “ما هذا الاسم!؟” صار فون ليرز جزءًا من دائرة تركيز فولفجانج لوتز الذي كشفه بالكامل ونقل الصورة إلى الموساد.
إذًا من هو فون ليرز أو عُمر أمين؟
نازيون بين القاهرة وتل أبيب (2): برنامج الصواريخ الألماني في مصر | مينا منير
وُلد فون ليرز في ألمانيا 1902، وترقى في المراتب الأكاديمية حتى صار أستاذًا في جامعة فيينا، حيث تخصص في مسألة الأعراق والأنثروبولوجيا.
من هنا انضم إلى الحزب النازي وترقى فيه حتى صار مُنظِّره الأول بعد مارتن بورمان، وساعد جوبلز الأيمن.
تركت زيارة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس لهتلر أثرًا كبيرًا عليه، فزاد اهتمامه بالإسلام كديانة نجحت، في تقديره، في مواجهة اليهودية وسحق نفوذها في الشرق.
كانت دورية “المسألة اليهودية – Die Judenfrage” هي الأداة التي وضعت ملامح خطة هتلر لإبادة اليهود بالقتل الجماعي، وفي نفس الوقت كانت الوسيلة الأساسية لمعرفة النازيين عن الإسلام، حيث أسهب في شرح التشابه بين بنية الحكم في الرايخ وفي الدولة الإسلامية، التي تعتمد على مبدأ الرأس الأوحد والشورى، لا الديمقراطية (Führerprinzip)، وافتتانه بالرسول ودولة الخلفاء.
يُخبرنا ملف فون ليرز الضخم في الاستخبارات الأمريكية، والمكون من 24 وثيقة تقتفي أثره، أنه هرب من ألمانيا سنة 1945 بمساعدة تنظيم الـ ODESSA المكون من ضباط نازيين سهلوا تهريب زملائهم بوثائق مزورة.
فشوهد أولاً في السويد 1947 حيث كون خلية من القوميين السويديين، ثم شوهد وسط النازيين في الأرجنتين حتى منتصف الخمسينيات، حيث لعب دورًا مهمًا في التنظيم المذكور.
استمر في نشر وطباعة وتنظيم صفوف النازيين حول الأيديولوجية القائمة على ضرورة استرداد ألمانيا والانتقام من اليهود.
هناك التقطه صديقه القديم: الحاج أمين الحسيني الذي نجح في إقناعه بالهروب إلى مصر، حيث سيكون أقرب لإسرائيل ومع الألمان في تصنيع الصواريخ التي ستبيدها.
تتوقف تقارير المخابرات الأمريكية عند العام 1957، حيث يبلغنا عميل أمريكي أن فون ليرز وصل إلى مصر وتم إعطاؤه هوية أستاذ مصري ألماني يُدعى فؤاد، يدرِّس الآداب الألمانية في جامعة القاهرة (كان فون ليرز يجيد 5 لغات إجادة تامة، منها العربية).
نازيون بين القاهرة وتل أبيب: (1) أولريخ شنافت | مينا منير | دقائق.نت
يكشف لنا فولفجانج لوتز ما توقفت عنده المخابرات الأمريكية، حيث أشهر ليرز إسلامه في الأزهر وصار عمر أمين، وكتب دفاعًا عن الإسلام بالألمانية (تُرجم ونُشر في مجلة منبر الإسلام سنة 1964) بعنوان: لماذا صرت مسلمًا – Warum ich Muslim wurde،
وتولى منصب مسئول مواجهة الدعاية الصهيونية في وزارة الإرشاد القومي، فقام بترجمة نصوص نازية وطباعة ترجمة لويس الحاج لكتاب هتلر (كفاحي) الذي مازال يُطبع إلى اليوم، بالإضافة إلى الكتاب المزور (بروتوكولات حكماء صهيون).
بهذا مهد عمر أمين للتزاوج بين الإسلام السياسي والنازية أيديولوجيًا حينما رأى أن منشوراته ومطبوعاته قد لاقت رواجاً كبيراً، فلاحت له خطة شيطانية أخرى.
لم يتخلَّ فون ليرز عن حلم العودة والسيطرة على ألمانيا أبدًا. لكنه رأى أن النازية وحدها لن تستطيع تحقيق الحلم، وأن المستقبل صار لدولة الخلافة التي تحكم في ألمانيا ومنها إلى العالم؛ لأنها تملك المقومات الدينية والسياسية الكفيلة بتحقيق ما فشل فيه المسيحيون الضعفاء في أوروبا من جهة، والنازيون الذين فشلوا في إبادة اليهود من جهة أخرى.
إلا أن التواصل مع الإسلام السياسي بمصر في ظل حكم عبد الناصر يُعد انتحارًا. فكان الحل هو أن يعرض على الحاج أمين الحسيني الخطة التالية:
بناء طابور خامس من الإسلاميين، وتحديدًا جماعة الإخوان، في أوروبا على طريقة خلايا عنقودية.
سيوفر عمر أمين الدعم المادي والخططي واللوجستي داخل أوروبا من خلال تنظيم الـ ODESSA، المتمركز أغلب أعضائه في الأرجنتين، ولكن له رجال بهوية مزورة في جميع قطاعات ألمانيا الغربية.
بالمقابل، يتولى أمين الحسيني توفير عناصر الإخوان في الأماكن التي سيحددها له عمر أمين.
وافق الحسيني بحماس شديد، فبدأ بمخاطبة الإخوان في مصر والدول العربية. بينما نجح عمر أمين بالتركيز على ثلاث دول: السويد التي كانت له خلية فيها، سويسرا، ومدينتي هامبورج وميونخ في ألمانيا.
بالفعل، نجح رسول عمر أمين في ألمانيا، ضابط نازي آخر نجح في البقاء بألمانيا (يُدعى أوتو إيرنست ريمير)، بالتنسيق مع الإخوان في تأسيس “الجماعة الإسلامية” في هامبورج وميونخ.
أما في سويسرا، فقد نجح عمر أمين في تجنيد السياسي اليساري ألبرت أوبر الذي أشهر إسلامه على يديه ليصير Ahmed Huber، ثم نسق مع الحاج أمين الحسيني بالتواصل مع سعيد رمضان (والد طارق رمضان)، رجل الإخوان في جنيف، ليصير بعد ذلك أوبر مسؤولا عن تمويل الإخوان في جنيف وهامبورج.
من الجدير بالذكر أن الخطة ستستمر في النجاح لتصير سويسرا مركزًا رسميًا لتمويل التحالف النازي الإخواني من خلال بنك التقوى الذي وضع رأسماله نازيون من أمريكا اللاتينية بغية تمويل حركة الإخوان في الثمانينيات.
نجحت خطة تكوين الخلايا المذكورة، إلا أن تداخل شبكات مصالح الإخوان جعلت الوضع أكثر تشابكًا. ومع تصفية النازيين في مصر (كما سنرى لاحقًا)، صار التواصل بين الإخوان والنازيين غير واضح المعالم.
فمثلًا، نعرف أن سعيد رمضان نجح سريعًا في السيطرة على التنظيم ليس فقط في سويسرا ولكن في المركز الإسلامي الذي جاهد رجال فون ليرز (عمر أمين) والمسلمون في ميونخ لتأسيسه، ليصير قاعدة الإخوان الأقوى والأكثر صلابة في أوروبا.
لكن ما يمكننا قوله بثقة هو أن تنظيم نشاط الإخوان في أوروبا بالصورة التي صارت عليه الآن يعود للخطة الهادئة والمفصلة التي وضعها عمر أمين وعاونه عليها رجاله في تنظيم الـ ODESSA من جانب والحاج أمين الحسيني من جانب آخر.
ماذا حدث للوتز، عمر أمين وباقي النازيين في مصر؟ هذه قصة أخرى لا تقل إثارة، سنتركها للمقال القادم والأخير.