باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
القاعدة الفقهية تقول إن الأصل في الأشياء الإباحة. لكن تطور فتاوى فقهاء المسلمين في القرون المتأخرة في التعاطي مع المستحدثات سار بالعكس؛ يبدأ بالتشكيك والتحريم، قبل أن يتحول لأمر واقع، فتصدر الفتاوى بإباحته، حتى تحولت القاعدة عمليًا إلى: الأصل في الأشياء الجديدة التحريم حتى تشتد الحاجة إليها فتصبح مباحة.
المشكلة الأكبر أن القاعدة تجاوزت رجال الدين أنفسهم، وتحولت لنمط تفكير جميعي يسبق فيه عامة الناس المؤسسات الدينية في التحريم. وهو ما ظهر جليًا في مسألة التبرع بالأعضاء من المتوفى.
في فتواه (طالع نصها) أجاز المفتي التبرع بالأعضاء من الميت إلى الحي إذا أوصى المتوفى بذلك قبل وفاته، شريطة ألا يكون بأجر.
الأول: زمانها المبكر قبل احتدام الجدل في التسعينيات.
الثاني: أن الشيخ جاد الحق كان محسوبًا على المدرسة التقليدية المتشددة في الإفتاء، مقارنة بعدد من شيوخ الأزهر السابقين له، حيث عرف عنه تقيده بالأصول التقليدية للفتوى والالتزام بالمذاهب، وعدم الخروج على الإجماع. وهذا يتضح من تأصيله للفتوى.
وإمعانًا في تأكيد جواز التبرع بالأعضاء من المتوفى، وتقديمًا لبرهان عملي، أوصى بالتبرع بأعضائه بعد وفاته.
السلطة من أسفل .. الزوجة الثانية في مواجهة الإسلام السياسي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
عادة ما تكون المؤسسة الدينية الرسمية هي العقبة أمام صدور القوانين، مثلما شاهدنا سابقًا في قضايا الختان والخلع، ومؤخرًا في قضية الطلاق الشفوي.
لكن في مسألة التبرع بالأعضاء كان الأمر معكوسًا؛ فالمؤسسة الرسمية أجازتها مبكرًا. لكن سلطة الدين الشعبي + العلم الشعبي الناتج عن الصحوة الإسلامية كانا عنصري التعطيل الأساسيين.
عارض الشيخ محمد متولي الشعراوي إباحة التبرع بالأعضاء بشدة. وكانت لفتواه الأثر السلبي في تنفير الناس والمسؤولين من الفكرة، وعدم الاكتراث برأي المؤسسة الدينية صاحبة الصفة الرسمية للفتوى، في حين لم يكن للشعراوي أية صفة رسمية.
الملاحظ في فتوى الشعراوي أنها كانت قائمة على منطلقات عاطفية دون تأصيل أو استقصاء نصوص وأدلة وأقوال مذاهب، عكس ما فعل الشيخ جاد الحق.
الفتوى قامت كليًا على أن جسد الإنسان ليس ملكه، بالتالي فإن التبرع بالأعضاء تحدٍ لإرادة الله مالك جسد المتوفى.
الملفت هنا أن فتوى جاد الحق – التي سبقت فتوى الشعراوي – ناقشت تلك المسألة. ليبدو أن الشعراوي لم يطلع عليها أصلًا.
وفي فتواه، رد جاد الحق على مسألة ملكية الجسد بأن الجهاد بالنفس تعريض لها بالقتل، وأن الإسلام أوجب إنقاذ الغرقى والحرقى والهدمى، مع ما قد يترتب على ذلك من هلاك المجاهد أو المنقذ.
وفي مسألة امتهان كرامة الميت بعد موته، أجاب جاد الحق بأن الأمر يخضع للضرورة؛ حيث مصلحة حياة انسان مقدمة على الحفاظ على جسد ميت، ناقلًا من أقوال المذاهب أمثلة حول إجازة شق بطن الحامل الميتة لاستخراج الجنين، أو استخراج ما ابتلعه المتوفى قبل موته، وجواز جبر العظم واستبدال السن من الميت.
لماذا يحظى الشعراوي تحديدًا بكل هذه الشعبية؟ | هاني عمارة
الضلع الآخر في مسألة التبرع بالأعضاء كان الطبيب مصطفى محمود، الذي مثل سلطة العلم الشعبي ذي المسحة الدينية الوعظية.
تناول مصطفى محمود قضية زرع الأعضاء في حلقتين شهيرتين من برنامجه العلم والإيمان، إحداهما عن زراعة القلب والأخرى عن زراعة المخ.
وبدلًا من أن يحتفي بالأمر كطبيب، ويبشر به كأمل جديد للمرضى وفتح جديد للعلم، عرضه بشكل سلبي متشكك كتحدي الإنسان للخالق، وعدم جدواه عمليًا مع احتمال رفض الجسم للعضو المزروع، وأن الإنسان ليس مجرد آلة وقطع غيار، وأن غايته أن يمد في عمره فترة قصيرة في حال نجاح العملية.
الأسوأ أن مصطفى محمود عبر في الحلقتين عن مخاوفه من تحول زراعة الأعضاء إلى تجارة ومافيا بموجبها يجري خطف وقتل الناس لبيع أعضائهم وهي الصورة التي سيطرت على عقول الناس لفترة طويلة،
بموجبها انتشرت شائعات خطف الأطفال لنزع أعضائهم، وسرقة الأعضاء في المستشفيات في العمليات الجراحية. وهو ما سيترجم في أعمال فنية تزيد حالة الجدل لاحقًا.
السادات ودولة “العلم والإيمان” | الشعراوى ومصطفى محمود و “الخليفة السادس” | الحكاية في دقائق
حين صدرت الفتاوى الرسمية بجوار التبرع بالأعضاء من المتوفى، كان توصيف الموت فقهيًا هو توقف القلب والنفس وسكون وارتخاء الأعضاء.
لكن تعارض التعريف الفقهي مع “الموت الإكلينيكي” زاد الجدل، بما عطل صدور القانون 10 سنوات إضافية، حتى حسمه مجمع البحوث الإسلامية في 2009، حين قرر أن الشخص يعتبر ميتًا بإحدى العلامتين: توقف القلب والتنفس توقفًا تامًا وحكم الأطباء أن هذا التوقف لا رجعة فيه، أو إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا وحكم الأطباء أن هذا التعطل لا رجعة فيه.