ثورة التصحيح (2) | السادات باغت “عملاء موسكو” في السلطة.. فجند الروس اليسار لتحطيمه | مينا منير

ثورة التصحيح (2) | السادات باغت “عملاء موسكو” في السلطة.. فجند الروس اليسار لتحطيمه | مينا منير

26 Apr 2021
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

الجزء الأول من المقال (عبر الرابط) غطى كيف أصدر جمال عبد الناصر أحد أخطر قراراته وإن كان أقلها شهرة قبل وفاته بخمسة أشهر بتشكيل اللجنة الثلاثية التي رسخت قبضة مراكز القوى بشكل رسمي وقانوني، وحدود علاقة سامي شرف بالاتحاد السوفييتي، وهل كان جاسوسًا فعلًا.

في هذا الجزء، ننتقل إلى خطة محمد أنور السادات لخداع الأمريكيين والسوفييت واعتقال “التماسيح”.

زخاروف: الهروب الكبير

في السابعة والنصف من صباح نهار أحد أيام ربيع 1971، دق هاتف مدير مكتب الكي جي بي في الكويت، فلاديمير نيكولايفيتش زاخاروف، في شقته الكائنة بوسط العاصمة.

دق الهاتف دقتين بالتحديد، فترك قهوته، وأطل على الشارع من خلف ستائر الشرفة، ليجد ما كان يتوقعه ولا يتمناه: سيارة موديل فولكسفاجن سوداء، وفيها باقة ورود حمراء على المقعد الخلفي، تقف أمام مدخل العمارة!

لقد انكشف زخاروف، وصار لدى المخابرات الأمريكية معلومات صلبة أن رؤساءه في الكي جي بي يعلمون بأنه صار عميلًا لأمريكا، أي أن حياته في خطر.

هنا نفذ زخاروف البروتوكول المتفق عليه: سيغلق الستائر ويتصرف بطبيعته. سيخرج من الباب الخلفي ليجد تاكسي طبيعيا سيصطحبه إلى مستشفى يرتاده بانتظام. هناك، سيحصل على ما يحتاجه من وثائق وملابس تنكّر ويتحرك إلى مطار الكويت الدولي، ومنه إلى رحلة طويلة إلى أمريكا.

في أمريكا، سيتم “عصره” لمدة عشرة شهور كاملة لاستخلاص كل ما هو ممكن من معلومات، بما في ذلك ما لديه من معلومات عن النشاط السوفييتي في مصر، مقر عمله قبل الكويت.

فلاديمير نيكولايفيتش زاخاروف

فلاديمير نيكولايفيتش زاخاروف

معلومات خطيرة في واشنطن

في مقر المخابرات الأمريكية بلانجلي، يكشف زخاروف للأمريكيين ضخامة الخلاف بين الرئيس المصري محمد أنور السادات ومجموعة “التماسيح” التي بقيت على اتصال بالمخابرات السوفييتية من خلال الملحق بالسفارة فاديم كيربشنكو. إلا أن الخطورة بلغت حد التآمر على الإطاحة بالرئيس و”التخلص منه”.

وجد الأمريكيون المعلومات خطيرة وصادمة لسببين تذكرهما المراجع:

أولاً: أن السادات لم يكن معلوم التوجهات بالنسبة لهم، وأن الخلاف مع مراكز القوى لم يكن في نظرهم يرقى إلى حد التآمر عليه والتخلص منه بسبب موقفه من أمريكا.

ثانيًا: أن المخابرات المصرية، بحسب مارك بيري، جعلت خلق “أي نشاط للمخابرات الأمريكية داخل مصر مستحيل”.

بمقارنة المعلومات التي وفرها زخاروف، مع رسائل لاسلكية بين السفارة الروسية وموسكو اعترضتها رادارات أمريكا في المتوسط، بات الوضع أمام الأمريكيين واضحًا:

هناك فرصة لتحقيق تحالف مع السادات ضد السوفييت ومنع قيام حرب مع إسرائيل، ولكن هناك أيضًا تهديد حقيقي وعاجل لحياته أو على الأقل بقائه رئيسًا. فقررت المخابرات المركزية استغلال ما يبدو أنه فرصة تاريخية بالوصول للسادات وإبلاغه بالمؤامرة لإنقاذه وكسبه.

تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير

توماس تويتِن وأشرف مروان

لكن كيف يمكن تحقيق ذلك بسرعة كبيرة وفي نفس الوقت بعيدًا عن أعين رجال سامي شرف، بحسب قول بيري؟

نظرًا لضعف المعلومات عن الوضع في مصر، تم إرسال أخطر رجال العمليات الميدانية السرية (Clandestine Operations) في المخابرات، الضابط توماس تويتن (Thomas Twetten) كملحق في مكتب المصالح الأمريكية في مصر، داخل السفارة الإسبانية (لم تكن هناك حينها سفارة لأمريكا نظرًا لقطع العلاقات حينها).

بحسب تويتِن، لم تكن هناك خطة أو وسيلة للوصول إلى السادات دون اعتراض رجال سامي شرف. فظل بهدوء يراقب الوضع من القاهرة، وقبل أن يصل إلى اليأس من العملية، لفت نظره شخص واحد هادئ، غامض ولا يتتبعه أحد من رجال شرف. إنه الشاب أشرف مروان.

يصل تويتن بصعوبة شديدة لمروان ويسلمه ملفًا كاملًا بتفاصيل المؤامرة والأدلة الدامغة عليها، ويقوم مروان بتسليم الملف للسادات.

يُخبرنا تويتِن أن ذلك قد حدث في نهاية أبريل 1971، وفي أسبوعين فقط يقوم السادات بما عُرف لاحقًا بـ “ثورة التصحيح” والتي تخلص فيها من مراكز القوى.

توماس تويتين

توماس تويتين

إذًا: ما هي تلك المعلومات الخطيرة؟

تخبرنا وثائق متروخين المهربة من أرشيف الكي جي بي، والقابعة الآن في كلية تشرشل بجامعة كامبريدج، أن سلوك السادات أحدث ارتباكًا شديدًا للسوفييت، جعل تفسيره صعبًا، فقد كان دائمًا يخاطبهم بعكس ما يصلهم من معلوماتٍ عن طريق “التماسيح” الذين بلغ بهم الأمر إلى حد التسجيل للسادات وإبلاغ محتوى التسجيلات للسفير الروسي.

بحسب المنشور، انقسم الكي جي بي بين:

كيربشنكو، الذي أدار ملف سامي شرف – بحسب زعم الأسماء المذكورة أعلاه – وقد كان على قناعة بأن السادات سيطرد الخبراء الروس ويُضعف حضور الروس في مصر من جانب،

والجانب الآخر هو انطباع السفير الروسي فينوجرادوف الذي أكد على أن الصراع داخل مصر هو صراع نفوذ وأن تطويع السادات لا يزال ممكنًا.

مع وصول معلومات مؤكدة من الفريق محمد فوزي تؤكد أن السادات فتح قناة سرية مع الأمريكيين (فوزي واجه السادات بالأدلة وقد وبخه السادات)، تم استدعاء كل طاقم الكي جي بي في مصر إلى موسكو للنقاش حول نوايا السادات، إلا أن لقاءً خطيرًا حدث قبل سفرهم تسجله كل المصادر: ذهبت “التماسيح” للقاء كيربشنكو والسفير فينوجرادوف في بيت الأخير.

اتفق التماسيح وعقدوا العزم بالفعل على “التخلص” من السادات في حركة انقلابية تسيطر على مفاصل الدولة الحيوية في ليلة.

أهال الروس أن التماسيح قد “أبلغوهم” بما تقرر، دون تنسيق، فسافر الفريق إلى موسكو وأخبروهم بكل شيء.

أشرف مروان من الزاوية الأخرى: كتاب إسرائيليون يؤكدون أنه خدع إسرائيل خدعة كبرى

إذًا: ما هي تلك المعلومات الخطيرة؟

يقول نيقولاي ليونوف، المسؤول عن تقارير المنطقة في موسكو، إن السفير قد أصابه الخوف (was overcome by fear) من تبعات الانقلاب،

ولكن يبدو أن قناة أخرى للخارجية الروسية قد أرسلت إشارات مطمئنة حول نوايا السادات، فتقرر ألا يتم دعم محاولات التخلص من السادات إلى أن يتخذ هو خطواتٍ ضد مصالح السوفييت.

هنا يبدو أن الأمر قد أغضب كيربشنكو الذي أبلغهم ، بحسب زخاروف، بمعلوماتٍ محددة مصدرها فريق يشمل سامي شرف، حول نوايا السادات طرد الروس من مصر، ولكن لم يُسمع له.

فلما جاء الخامس عشر من مايو، كانت مفاجأة رهيبة أربكت منظومة المخابرات الروسية لدرجة سحبت معها السفير وعاقبته بتحويله لعملٍ إداري بعد أن تسببت تطميناته في سوء تقدير الوضع، وعدم السماع لكيربشنكو الذي فقد هو الآخر تماسيحه القابعة في سجون ثورة التصحيح.

وثائق متروخين

وثائق متروخين

الانتقام باليسار

تجمع المصادر على مقولة: “لم نكره زعيمًا عربيًا في تاريخنا أكثر من السادات”.

فبعد حرب أكتوبر وفقدان الروس نفوذهم في مصر، بدا أمامهم حتمية الانتقام من خديعة السادات وأشرف مروان  لهم.

تذكر الوثائق (vol. 6, ch. 9.) إطلاق عملية لتحطيم صورة السادات ومروان، تحديدًا في مايو 1975، بإشراف فلاديمير كازاكوف.

فتم دفع مبالغ سخية لصحافيين في عدة مناطق في الشرق الأوسط، أهمها مصر ولبنان وليبيا وسوريا، للكتابة المستمرة ضد مروان. شملت شائعات عن تواطؤ السعودية ومروان في صفقات سلاح مشبوهة وعمالة للمخابرات الأمريكية.

بل أن الأمر وصل إلى إطلاق شائعات تمس شرف مروان والسيدة جيهان السادات.

في نفس الوقت، تم تغذية العداء للسادات في مصر من خلال تمويل الأحزاب والجماعات اليسارية لزعزعة صورة انتصار أكتوبر والضغط على نقطة العروبة وخيانة التطبيع.

يحتوي المجلد السادس ميزانية خصصتها الكي جي بي لليساريين في مصر، وتم تسليم التمويل لليساريين من خلال ضابط اتصال في السفارة.

كانت الخطة الجديدة هي استحالة اختراق مصر من خلال حزب شيوعي، فتم استخدام التنويعات اليسارية لتحقيق الأمر.

فلما أعلن السادات عودة الحياة الحزبية سنة 1976، قدم الاتحاد السوفييتي دعمًا ماديًا، بحسب الوثيقة رقم  k-26, 11,15، تم تسليم المبالغ يوم الخامس من يونيو 1976، و بحسب هذه الوثيقة أيضًا فقد كان من بين من تسلمها رئيس حزب التجمع.

الخلاصة

كل ما قيل أعلاه هو في عهدة مذكرات الضباط السوفييت والأمريكيين، بالإضافة إلى وثائق متروخين المسربة، وبالتالي نحن لسنا بصدد إطلاق أحكام، بل نترك هذه المادة للقراء.

لكن ما يمكننا قوله هو أن ثورة التصحيح في 15 مايو لم تكن مجرد صراع على السلطة وإنما كانت معركة تطلبت من السادات أن يتعامل فيها مع من يقف خلف تلك المجموعة (دون تحديد منا عن طبيعة العلاقة مع تلك المجموعة).

لقد كان السادات يريد أن يدخل الحرب بإعداد عسكري وتسليحي قوي وبموازنات سياسية قادر بها على أن يمتلك أوراقا يفاوض عليها. فاستطاع بما يمكنني تسميته معجزةً في خداع الأمريكيين والروس معًا، دون خسارة أي منهما، وخرج من المعركة رابحًا.

إن فاصل معركة ثورة التصحيح مع الروس لم يكن أقل خطورةً من معركة الخداع الاستراتيجي التي جرد بها السادات الأمريكيين، كما قال كسنجر، من أعز سلاح لهم، وهو القدرة المخابراتية على التنبؤ بما يحدث.

لم يحجب السادات أي معلوماتٍ عن أي طرف لأنه لما جاء للحكم لم يكن يملك من أمر مؤسساته الأمنية ما يتيح له ذلك، وقد أيقن ذلك تمامًا. إلا أنه في نفس الوقت نجح في فرض التفسير الذي أراد هو للروس والأمريكيين أن يعتقدوه، فكانت خدعة 15 مايو و6 أكتوبر جزءًا من معركة طويلة استحال على جميع أطرافها التنبؤ بما في جعبة السادات.

قائمة المراجع:

  1. Andrew and O. Gordievsky, KGB: The Inside Story (Harper Perennial, 1991).

Christopher Andrew, The World was Going Our Way: The KGB and the Battle for the Third World (Basic Books, 2006).

Idem. and Vasili Mitrokhin, The Mitrokhin Archive II: The KGB in the World (Penguin, 2005).

John Barron, KGB: The Secret Work of Soviet Secret Agents (London: Hodder & Stoughton, 1974).

Vladimir Kuzichkin, Thomas B. Beattie, Inside the KGB: My Life in Soviet Espionage (ISHI Press, 2020).

  1. Sakharov, High Treason (Ballantine Books, 1981).
  2. Perry, Eclipse: The Last Days of the CIA (Diane Pub Co, 1992)

CIA Reports:

CIA-RDP77-00432R000100370007-0

CIA-RDP79-01194A000100700001-8

جمال حماد، الحكومة الخفية في عهد عبد الناصر (الزهراء للإعلام العربي، 1989).

سامي شرف، سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر، 5 أجزاء (المكتب المصري الحديث 2013 – 2016).

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك