في إحدى حلقات مسلسل “خلي بالك من زيزي” تظهر الطفلة ريما مصطفى في مشهد قصير جدًا هو جزء من شخصيتها الدرامية كطفلة تمارس التنمر الصريح بين زملائها في المدرسة.
ساندي وجدت ضالتها في طفلة أخرى “عطيات/ تيتو”، انتقلت حديثًا للمدرسة، من المنصورة للقاهرة.
تيتو مصابة باضطراب تشتت الانتباه وفرط الحركة Attention Deficit and Hyperactivity Disorder. اضطراب بدأ تشخيصه ومحاولة السيطرة عليه حديثًا في عالم الطب النفسي. ولا تزال تدور بشأنه جدالات علمية تجعله غير قابل حتى اللحظة للتعريف الدقيق والعلاج المحدد. لكن على الأقل صارت ملامحه العامة أكثر وضوحًا. ومقاربته بالعلاج السلوكي والمعرفي والدوائي تحقق إنجازات أكبر كل يوم.
كأي اضطراب يقع ما بين الجيني والنفسي والاجتماعي، يحدد مقدار الوعي الاجتماعي بطبيعته قدرة المجتمع على استيعابه والتعامل مع المصابين به. ليست كل الاضطرابات مسؤولية شخصية تقع على أصحابها. يخلق الوعي العام بالمساحة الاجتماعية التي تؤجج الاضطرابات سلوكا أكثر صحية تجاه المصابين بها.
منذ عقود، لم تكن المجتمعات تتعرف جيدًا على مرضى التوحد، أو مرضى الاكتئاب، أو مرضى الوسواس القهري.
لكن عندما بدأت السينما في تناول حالاتهم بصورة أكثر استيعابًا، وبدأ الإعلام في وضعهم على الأجندة تعريفًا ومناقشة، ازداد تأهيل المجموع الأكبر للتعامل معهم، ليس كاستثناء ضار ومخيف، ولكن كسقوط محزن لأحد أطراف المجتمع في معاناة مؤلمة لا تستدعي أن تزيدها باقي الأطراف بالنبذ والخوف والاستبعاد من العمل والنطاق الاجتماعي.
تظهر التعليقات الساخرة من المساحة الرمادية بين التقبل والمساعدة وإفساح الفرصة الاجتماعية للمضطربين، وبين استمراء هؤلاء لحالاتهم المضطربة وإلقاء العبء على المحيط مع إعفاء أنفسهم من المسؤولية عن التحسن.
مثلها مثل كل جدالات الصوابية السياسية في التعامل مع ظواهر العنصرية والتحيز الجنسي حتى تصل للصراعات الحضارية والخصوصية الثقافية للمجموعات المتدينة التي تبني سياجًا لحماية نفسها من النقد.
أي ظاهرة ثقافية أو نفسية اجتماعية صارت اليوم محل نزاع على تعريفها أو محل تشكيك في تعريفها ثم تصديق ما تأتي به المؤسسة العلمية أو السياسية أو الإعلامية بشأنها. وبالتالي لم يعد الالتزام حرفيًا بنشرات الأخبار ومعلوماتها أو نصائح أجهزة التوعية والصحة أمرًا إجباريًا مسلمًًا به (حتى تطعيم كورونا اللي بتموتنا كلنا!).
صارت هناك مساحة دائمة لاختراع النقيض. والنقيض يأتي من خارج هذا الغلاف الرسمي للمعرفة. يأتي مرتجلًا، إبداعيًا، ومضحكًا.
تواجه ساندي زميلتها تيتو بحقيقة أخفتها لأنها تخجل منها: “احنا عرفنا من فصلك في grade3 إن انتي اسمك عطيات مش تيتو. وإن إنتي كمان فلاحة. يا كدّابة”.
ساندي لا تعرف بالطبع أي خلفيات عن اضطراب عطيات. لكنها تلمح فرط حركتها وعدم قدرتها على التركيز الذي يعوقها تمامًا عن التجاوب داخل الفصل. والنتيجة واضحة في رسوبها المتكرر ونزولها لسنة دراسية سابقة واحتياجها لمعلمة ظل ترافقها لتساعدها على التحصيل.
مثل أطفال كثر قابلناهم في المدارس والجامعات، تتقن الفنانة ريما مصطفى دور المتنمرة التي تمتاز بصراحة فجة ولا تعتذر مطلقًا عن مواجهة الجميع بمشكلاتهم وعيوبهم، إلا نفسها طبعًا.
وظهور تلك الشخصية الدرامية غير نمطي في الدراما المصرية التي تحرص على التنميط التطهري لفئات اجتماعية محددة مثل الأطفال والأمهات وكبار السن والمسؤولين الرسميين على سبيل المثال.
طبقة كثيفة من المواعظ وطيب السلوك والطاعة العمياء وادعاء الحكمة تغلّف غالبا تقديم تلك الشخصيات بعيدًا عن تنوعاتها في الواقع. نوع من الحماية التواطؤية يتسرب حتى لعقول المبدعين أو تفرضه عليهم الرقابة. فئات تصلح للاضطراب وترتكب الأخطاء والجرائم وأخرى لا تجوز عليها إلا الرحمة.
الظهور غير النمطي لساندي، والتي نعرفها جميعًا ولكن لم نرها على الشاشة غالبًا، جعلها في اليوم التالي ميم. صنعت باستخدام صورتها كوميكس تم تداولها على نطاق واسع عبر الشبكات الاجتماعية.
يصعب تعريف الميم وشروط شهرته وانتشاره. قد يكون صورة أو صوت أو فيديو قصير مقتطع من سياقه، قد يكون كلمة أو جملة أو حركة، يتناول إنسانا أو حيوانا، حقيقيا أو مخترعا. الأهم أن هذه اللمحة القصيرة تجد طريقها بين قطاعات واسعة في مجتمع ما أو حتى في العالم كله وتصبح viral (تنتشر بسرعة متزايدة). وتجمع في مدة قصيرة جدًا أو تعبير معين للوجه عدة معاني تسطر اللغة المكتوبة سطورًا عديدة حتى تستطيع وصفها.
في حالة ساندي مثلًا، الصورة التي أصبحت ميمًا Image Macro أو قالبًا ثابتًا template لصناعة كوميكس بتعليقات مختلفة، هي صورة لنظرة من طفلة تحمل عدة معاني: جرأة على قول ما نخفيه احترامًا أو تأدبًا، قدرة على تجاوز ما تعتبره الأخلاق الاجتماعية جرحًا لشعور شخص ما أو “كلام عيب ما يصحش”، طفولة مشاغبة غير عابئة باللوم عليها، استخفاف بالخصم ورد فعله، ثبات انفعالي وثقة مفرطة.
وربما يرى غيري العديد من المعاني الأخرى في هذه الصورة بالذات لو كان على علم بالسياق الدرامي الذي ظهرت فيه.
السياق شرط أساسي لإدراك الضحك في الميمز والكوميكس. لو لم نشاهد عدة أفلام لعادل إمام ونتعرف على حركات وجهه التي ابتكرها تعبيرًا عن تعجب أو رفض أو سخرية لما استعدنا هذه التعبيرات في سياقات اجتماعية مشابهة.
تعبيراته التقليدية التي صارت جزءًا من وعينا المعرفي وثقافتنا العامة استعيدت لساحة الكوميكس لأنها تجمع من المعاني ما هو أعقد من اللغة المباشرة للسخرية والنقد. كما أنها توفر لنا طريقة ظاهرها كوميدي، بلا توابع جادة وجارحة، لنمارس هذا النقد دون أن يستطيع الطرف المقابل الاحتجاج على وقاحتنا مثلًا.
عندما نقول في أحد التعليقات (بصوت اللمبي) يستعيد من يقرأ هذا الصوت لأنه شاهد فيلم اللمبي. ويستعيد معرفته عن شخصية اللمبي وما تمثل له. ويسمع الصوت في أذنه ساخرًا مع مسحة بلاهة.
هذا ما يسمى meme literacy شرط فهم واستيعاب النكتة أن نعرف كمرسلين ومستقبلين السياق الأصلي الذي ظهرت فيه، ونعقد مقارنة سريعة في أذهاننا بين الأصل والنسخة الجديدة.
هناك أيضًا سياق اجتماعي يجعل صورة ساندي ملائمة في زمن ما ومجتمع ما لتصبح ميمًا. إذ تتلقفها القطاعات التي تحتاج هذا المثال أو النمط. ربما لأنها اعتادت الكلام المتغطي لذلك يصبح عنصر المفاجأة بالذات على لسان طفلة عنصرًا للجذب.
وربما لأنها بالعكس، اعتادت أن تجرح الآخرين بسهولة دون وعي كاف بحساسياتهم، رأت نفسها في ساندي.
وربما تأثرًا بخطاب معاد للصوابية السياسية التي تراقب معايير الكلام المسموح والممنوع، العنصري وغير العنصري، المسيء لدين معين، المهين لفئة اجتماعية معينة. وعلى عكس خطاب الصوابية تمنح صورة ساندي تلك المساحة النقدية مع مسحة كوميدية طفولية تستبعد سوء النية من التعليق المكتوب، هو مجرد دعابة.
في الأمثلة التالية، نرى كيف تتداخل المعاني وتنقلب عندما يصبح الميم ملك الجميع. يستطيع أشخاص لا حصر لهم إعادة إنتاجه وتكراره في مواقف مختلفة. يدخل الميم رحلة يصعب بعدها أن نحدد هو ملك من: من يشجعون الصوابية أم من يرفضونها؟ من يحبون التنمر أم من بيحاربوه؟ من يسخر من الناس أم من يسخر من نفسه؟
لكن لغة ساندي سمحت لمبتكر الكوميك أن يقولها بفجاجة أكتر. ولن نعرف بالظبط موقفه النقدي: هل هو مجرد ساخر مع الساخرين؟ أم أنه فعلًا لا يحب “التخان”؟
والأكيد، أننا أصبحنا نملك مساحة أكبر لنقول كل هذا الكلام دون أن يتدخل أحدهم لوعظنا بأننا نؤذي مشاعر أصحاب الوزن الزائد. بل يمكن أن يكون أصحاب الوزن الزائد أنفسهم أقل حساسية فيضحكون بدل الضيق؛ لأن الكلام أصبح “قلشة” يومية غير موجهة لأحد بعينه عن سوء نية.
يفترض أن نقول “تجارة إنجلش” كي لا يعتبرنا أحدهم “فلاحين” أو أن المشكلة الحقيقية فيمن يقولون “تجارة إنجلش” ويسخرون ممن يقولون “تجارة إنجليزي” باعتبارهم من يعانون من مشكلة فعلًا.. مشكلة متعلقة باعتقادهم أن تكويد الكلام بمصطلحات من لغة أجنبية يضيف لوضعهم الطبقي، أو يخلصهم من عار يشعرون به لأنهم في الأصل فلاحون.
المجتمع عادة في كل مكان بدأ يعطي دلالات للتفريق بين أخلاق الريف والحضر. سكان المدن في العالم كله يمنحون أنفسهم حق التنكيت على الريفيين (في مصر الفلاحين والصعايدة).
لكن في المقابل، ينكت الفلاحون والصعايدة على الحضريين أيضًا؛ باعتبارهم متساهلين أخلاقيًا “مش رجالة كفاية، طريين وبيتضحك عليهم”.
التمييز عن طريق كلمة “فلاحة” جزء من معركة وضعنا على السلم الاجتماعي. أي أخلاق ننتمي إليها؟ محافظة أم منفتحة؟ أصولية أم غير تقليدية؟
اللغة التي نتكلم بها جزء من الإشارات عن المكان الذي نتمنى أن نكون فيه. حتى لو لم نكن فيه بالفعل. لو قلنا “تجارة إنجليش” سيرانا بعضهم أرقى اجتماعيًا، في نفس الوقت، سيرانا آخرون في وضع اجتماعي أكثر استقرارًا باعتبارنا مجرد “محدثين” نحاول اللحاق بطبقة غير طبقتنا، ونعاني من قلق اجتماعي كبير بخصوص وضعنا.
ساندي أصبحت صوتًا لنوع من التنميط لفتاة تضحك بصوت عالٍ. الاستعارات المستخدمة (يجيبلنا بوليس الآداب/ يا رقاااااصة) نراها في تعليقات تعتبر الضحكة العالية علامة على قلة الحياء، وأن الفتاة بالضرورة “أخلاقها شمال”.
هذا الكوميك سمح لهذا التفكير أن يظهر بلغة أكثر فجاجة يمكن ألا نستطيع التعبير عنها في الحقيقة: “ضحكتك عالية تبقي رقاصة”.
لكن مصمم الميم شعر بأمان أكبر عند الحديث بهذه الطريقة لأنها في النهاية “مجرد قلشة” من حقك أن تضحك عليها أو لا تضحك باعتبار أن الكوميكس “مش بتعوّر”.
تعبير واحد على وجه ساندي أمكن من خلاله أن نتتبع مجموعة قيم اجتماعية. من يتبناها ومن يتبنى عكسها؟ ما حجم انتشار هؤلاء وأولئك؟
التغيير الذي أدخلته الميمز واستخدامها في سياقنا الاجتماعي جزء من رحلة الجدل حول المعاني والخطابات السائدة. تنجح أحيانًا في تحويل كلام كنا نأخذه بجد إلى “مسخرة” تخشى أن تقول صراحة إنك موافق عليها، لأنك حينها ستعطي متابعيك علامة على أنك مخالف للمتفق عليه.
تنجح في أحيان أخرى في وصم فئات اجتماعية معينة، ووضع كلامها محل نقد واستهجان.
تنجح في أحيان ثالثة في تحويل “شرطة الأخلاق” إلى إفيه سائد عنوانه صورة لمحمد صبحي. تستطيع استخدامه بلا نهاية في مواجهة سخافة المواعظ وحدود القيم الاجتماعية المفروضة بالرقابة الاجتماعية والضغط المؤسسي.