التكفير بالمناقيش | خمسة محاور للتكفير أخفاها سيد قطب في ظلال القرآن | هاني عمارة

التكفير بالمناقيش | خمسة محاور للتكفير أخفاها سيد قطب في ظلال القرآن | هاني عمارة

6 Sep 2021
هاني عمارة دقائق.نت

هاني عمارة

باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي

تاريخ الاسلام مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

حين كتب العلامة أبو القاسم الزمخشري تفسيره الشهير “الكشاف”، ضمّنه فِكر المعتزلة المُخالف لفكر أهل السُنة. وبسبب براعة الزمخشري في التفسير البلاغي شاع تفسيره بين المذاهب الأخرى.

لكن هاجس ما بثه الزمخشري في تفسيره ظل يؤرق أغلب أئمة السُنة، ما دفعهم لتعقب مواطن الاعتزال فيه وإزالتها في مصنّفات منقّحة.

صاحب أبرز هذه الجهود كان الإمام البلقيني شيخ الحافظ ابن حجر، الذي قال:

استخرجتُ من الكشاف اعتزالًا بالمناقيش. فمثلًا يقول الزمخشري في تفسير الله عز وجل: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}: أيّ فوز أعظم من دخول الجنة؟! وفي كلامه هذا إشارة إلى نفي الرؤيا، فإنه يوجد فوز أعظم من دخول الجنة، وهو أن يرى المؤمنون ربهم.

الأديب المكفر بـ “المناقيش”

أتذكر هذه المقولة كلّما طالعتُ تفسير سيد قطب “في ظلال القرآن”. فالرجل كان أديبًا بارعًا من خريجي مدرسة أبولو الأدبية، وتلميذًا نجيبًا للعقاد، وحاضرًا مؤثرًا في صالوناته الأدبية، وفقًا لشهادة نجيب محفوظ.

في شهادته، أشاد محفوظ ببراعة سيد قطب وقُدرته الكبيرة على الجدل والحوار مع كبار الأدباء، رغم عدم إجادته لأية لغة أجنبية.

في ذلك الوقت، كانت المكتبة الإسلامية تفتقر إلى تفسير مكتوب بلغة أدبية معاصرة، وهو ما تصدّى له سيد قطب بعد انضمامه للإخوان بكتاب “في ظلال القرآن”.

هنا يتجلّى مدى صحة حدس نجيب محفوظ، بعدما حقق تفسير “الظلال” مكانة كبيرة في العلوم القرآنية، واعتنت به العديد من الدراسات الأكاديمية، خاصةً في قضايا الدفاع عن الإسلام ضد المستشرقين والتصوير الفني والوجوه البيانية والبلاغية.

لكن كسلفه الكشاف، ضمّن قطب في كتابه أيديولوجيته المستقلة النابعة من فكر الإخوان المسلمين ذي البنية التكفيرية غير الظاهرة، فخرج الكتاب إلى النور يحمل فكرًا تكفيريًّا مُزيّنا بغطاء أدبي بلاغي عظيم، وبالتعريض لعبارة البلقيني فإن الكتاب يحوي “تكفيرا بالمناقيش”.

محاور التكفير في ظلال سيد قطب

ربما لا يستشعر البعض -خصوصا الدارسين- حاليًا غرابة في المعاني، بعد أن تشربوا بدون وعي أفكار الإسلام السياسي على أنها افكار إسلامية أصيلة بفعل الخطاب الإسلامي الأكاديمي المخترق إخوانيا أو من خطاب الدعاة الجدد.

لكن الغرابة ستكون عندما يدرك هؤلاء أن هذه معانٍ حديثة أسقطها سيد قطب، وتبعه الإسلاميون من بعده وما هي إلا معانٍ تكفيرية بالمناقيش.

يدور هذا المنهج التكفيري في محاور خمسة هي أساس كتاب “في ظلال القرآن” وهي:

1- الصراع الأزلي:

ينطلق سيد قطب من خلال القرآن لفكرة أن الحياة ما هي إلا معركة أزلية بين الخير والشر، بدأت منذ نزول إبليس ورفضه السجود.

هذا الصراع يخرج لاحقًا من نطاق الخير والشر من المفهوم الديني الكلامي والفلسفي للمفهوم الحركي المستقر في وعي الإسلام السياسي المعاصر، وهو ما سيصفه سيد قطب بـ(معركة العقيدة) بين طرفين:

طرف الشر: ويعبر عنه بالطاغوت أحيانًا، وبالمجتمع الجاهلي أحيانًا أخرى. والطاغوت يعني به الحاكم الظالم والنظم والقوانيين الوضعية غير الإسلامية.

طرف الخير: يعبر عنه بالعصبة المؤمنة أو الجماعة المسلمة، ويعتبر أن هذه المعركة حتمية مفروضة على المسلمين فرضا.

يقول في الظلال: “إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة – حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة – إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل.. إنها سنة الله لا بد أن تجري”.

ويظهر البعد السياسي لهذه المعركة من خلال تفسيراته، وإسقاطاته لقصة موسى وفرعون المتكررة في القرآن.

2- توحيد الحاكمية:

هي النقطة الأخطر في فكرة سيد قطب والتي عليها تمحور مشروع الإسلام السياسي، يقوم الإسلام على تفسير جديد لمعنى “لا إله إلا الله”.

فمفهومها المعروف لدى المسلمين “الإقرار بوجود إله واحد خلق الكون لا يشاركه فيه أحد”، أما سيد قطب، ومن بعده الإسلاميون، اعتبروا أن معنى التوحيد هو تحقيق حاكمية الله في الأرض، بمعنى إقامة الدولة المسلمة، وفق تصوراتهم التي بها يحكم الله الناس.

يقول سيد: “كانوا [العرب] يعرفون من لغتهم معنى (إله)، ومعنى (لا إله إلا الله)، كانوا يعرفون: أن الألوهية تعني الحاكمية…كانوا يعلمون: أن (لا إله إلا الله) ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية )”، وفي موضعٍ آخر يُعبِر عنها بشكل أوضح فيقول: “لا إله إلا الله ، كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا لله”.

والحاكمية هنا هي سلطة التشريع، وعليه فإن أي حكم أو نظام لا يتبنى المنهج الإلهي في تصوراته هو طاغوت، سواء كان فرادى أو مؤسسات أو نظريات حكم، وأي مجتمع يقبل غيره هو مجتمع جاهلي.

وأعطى قطب فكرة الحاكمية أولوية مُطلقة، وهو ما ترتب عليه إنكاره التشريع والعمل في الفقه الإسلامي إلا بعد اقامة الحكم الإلهي في الأرض. حيث يقول:

“إنّ العمل في الحقل الفكري للفقه الإسلامي عملٌ مريح لأنّه لا خطر فيه ولكنّه ليس عملاً للإسلام، ولا هو مِن منهج هذا الدين ولا مِن طبيعتهِ. وخيرٌ للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة، أمّا الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملاً للإسلام في هذه الفترة فأحسب – والله أعلم – أنّه مضيعةٌ للعُمر وللأجر أيضاً”.

3- المرحلية الحركية:

تقوم منظومة الإسلامية التراثية على أن الأحكام الإسلامية استقرت بالعهد المدني باعتباره سلطة قائمة، وعليه كانت أي أحكام سابقة هي أحكام منسوخة لا يجوز العمل بها، وإن الأحكام المتأخرة، زمنيًا، في زمن الرسالة هي الأصل وناسخة لما قبلها.

يرفض سيد قطب فكرة النسخ، ويعبّر عنها بالمرحلية، حيث يقول “إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة”. هذه الجزئية هي أساس الفقه الحركي، الذي أسس له سيد قطب، والذي يعتمد على تحويل السيرة إلى منهج حركي وتاويل القرآن تاويلاً حركيًا.

يقول سيد قطب: “نحن نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة.. ولكن مع اختلاف في الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة.. وهذا الاختلاف هو الذي يقتضي «اجتهادا» جديدا في «فقه الحركة» يوائم بين السوابق التاريخية للحركة الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا.. هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة.. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة، وشرائع المجتمع المنظم المستقر، فهذا ليس أوانه”.

ويوضح الفرق بينه الفقه الحركي والفقه التقليدي الذي يعبر عنه بفقه الأوراق، فيقول: “إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة، وفقه الأوراق!

إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه، لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها! أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، وموقفا موقفا. ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك، بحيث تجيء مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه؛ ومتجددة بتجدده كذلك”.

4- المفاصلة – العزلة الشعورية:

التقسيم الحاد الذي وضعه سيد قطب بين الجماعة المسلمة والمجتمع الجاهلي اقتضى منه تعبيرًا أدبيًا بليغًا عن فكرة الولاء والبراء التكفيرية، فكان مفهوم المفاصلة أو العزلة الشعورية.

يقول سيد: “ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدّ الضغط علينا، حين نعتزل الناس؛ لأنّنا نحسّ أنّنا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً، اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة، إنّ العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأنّنا أعلى منهم أفقاً، إنّ التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية”.

هذه المفاصلة نلمسها عندما نجد في استشعار الاستعلاء والوصاية لدى الإسلامي الذي يشاركنا الهيئة واللغة والثقافة، ظاهريًا، لكنه بداخله وعي وثقافة موازية لكل شيء.

فهو لديه تاريخ مواز غير التاريخ الذي نعرفه، وتصنيف موازٍ للأشخاص والهيئات في ضوء فكره، وأدب مواز وفن مواز وتفكير مواز.

5- التمكين:

تمثل اليوتيوبيا النهائية التي يبشر الإسلاميون لتحقيقها في العالم، والتي عبّر عنها سيد قطب ومن تبعه من الإسلاميين.

ويجعلها سيد قطب نتيجة حتمية للالتزام بالمنهج الحركي للقرآن بمثل ما فعلت الجماعة الإسرائيلية في قصة طالوت، يقول “هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء.. فقط. وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء.. ثم انتظار كل شيء هناك! ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء”.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك