بداية من العام 756، أزاح البابا غريغوريوس الأول، الملوك الإقطاعيين الذين حكموا مقاطعات وسط إيطاليا، وفرض سيطرته المباشرة عليها.
لكن الفراغ السياسي، الذي نشأ في أوروبا عقب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، بدا مغريًا، فسعى البابا لوراثة نفوذ الإمبراطورية السياسي على كافة أنحاء العالم المسيحي.
حينها، كانت الكنيسة الكاثوليكية أكثر من مؤهلة لذلك؛ بسبب الرعاية الكبيرة التي حظيت بها في ظِل السُلطة الرومانية، وتضخم مكانة "كنيسة روما" الروحية بين كافة مسيحيي أوروبا، وهي المكانة التي استثمرها الأساقفة لتدشين دولتهم البابوية الأولى، متضمنة العاصمة الإمبراطورية -سابقًا- روما.
دعّم ظهور الإسلام، وانتشاره المتنامي في أوروبا، ترسيخ قواعد دولة البابا، ونيلها دعمًا سياسيًا من أغلب قادة أوروبا، بعدما أصبح يُنظر لها كقلب العالم المسيحي، الذي يقود الصراع ضد المسلمين،
ومنها انطلقت دعوات الحملات الصليبية، التي استجاب لها قادة أوروبا الكبار في إنجلترا وألمانيا وفرنسا، بالإضافة إلى محاكم التفتيش، التي منحت الكنيسة حقِّ الضبطية القضائية في كافة أنحاء القارة سعيًا لنشر "إيمانها القويم، ما أكسب البابا -وبالتبعية دولته - سُلطة روحية كبيرة على ملوك أوروبا.
تمثلت هذه السُلطة في مقولة البابا بونيفاس الثامن بأن: "خضوع كل كائن بشري للبابا الروماني هو أمر ضروري للخلاص".
في نهاية القرن الثامن عشر، كانت علاقة نابليون مع بابوات الفاتيكان متوترة.
نابليون اكن يعيش زهوة مجده، وأصبح سيد أوروبا الأول. لكن السيادة الكبيرة التي تمتّعت بها الكنيسة الكاثوليكية في أنحاء أوروبا كانت أهم منازعيه، لذا كان الاصطدام بين الطرفين حتميًا.
بالنهاية، قرّر نابليون وضع حدٍّ لهذه الخلافات على طريقته؛ في 1796م، أطاح بالبابا بيوس السادس، بعدما اعتقلته فرقة عسكرية، واقتادته من روما أسيرًا إلى فرنسا، وبقي هناك حتى توفي عام 1799.
رغم ذلك، لم تهدأ خلافات نابليون مع البابا التالي، بيوس السابع، الذي تقلّد تاجًا من الورق، لأن الجنود الفرنسيين سرقوا التيجان البابوية الرسمية خلال اعتقالهم بيوس السادس، حتى حسم نابليون الصراع بعد 8 أعوام من المفاوضات، بتوقيع معاهدة 1801، والتي حجّمت نفوذ الكنيسة في فرنسا، واعترفت بتبعية رجال الدين الفرنسيين للدولة لا البابا، كما باعت الكنيسة مساحات شاسعة من أراضيها إلى الحكومة الفرنسية.
لم يكتفِ نابليون بذلك، فأجبر البابا بيوس على رئاسة حفل تتويجه إمبراطورًا داخل كاتدرائية نوتردام 1804، حيث وضع بيوس التاج الإمبراطوري على رأس نابوليون بنفسه.
لكن الوفاق "المفروض على البابا" توتر مجددًا بعدما انتقد الحصار الذي فرضه نابوليون على إنجلترا، فعاود نابوليون اقتحام الأراضي الباباوية مُجددا، وفرض سيطرته على المقاطعات الخاضعة للحُكم البابوي.
ردّ عليه بيوس بحرمان نابليون كنسيًا. فأمر نابليون رجاله باحتلال قصر كويرينال، مقر البابا، في روما، وقبضوا عليه بعد مقاومة قصيرة من الحراس السويسريين.
وبناءٍ على أمر نابليون، وُضِع البابا بيوس رهن الأسر في مدينة سافونا، التي تقع شمال غرب إيطاليا.
بعد 5 سنواتٍ من الأسر، أجبر نابوليون البابا على توقيع اتفاقية جديدة شكّلت ملامح علاقة فرنسا بالكنيسة، استمرّ العمل بها حتى 1905 حين قررت باريس فصل الكنيسة عن الدولة.
وبالرغم من تحرير البابا وعودته إلى منصبه، وتنازل نابليون عن عرشه في 1814، إلا أن جرأة نابليون المتتالية في استباحة الأراضي البابوية، كسّرت هيبتها في عيون أعدائها، فلم تعد كيانًا مقدسًا لا يجوز المساس به.
بعد سقوط نابوليون، حاول الأمراء الذين عيّنهم على القطاعات الإيطالية الاستقلال بإماراتهم، فعاشت إيطاليا حالة من التشظي السياسي والاجتماعي.
في 1860، كانت 4 قوى رئيسية تسيطر على التراب الإيطالي: الإمبراطورية النمساوية في البندقية، ومملكة الصقليتين (جزيرة صقلية + جنوب إيطاليا)، الدولة البابوية، وأخيرًا مملكة سردينيا، التي ظهرت في غرب إيطاليا.
من مملكة سردينيا انطلقت دعاوى توحيد إيطاليا، محققة الانتصار تلو الآخر، فتمكّنت من الإجهاز على مملكة الصلقيتين، كما أنهت التواجد العسكري النمساوي في البندقية
لم يبقَ أمامها عائقًا لتوحيد إيطالا بأسرها إلا دولة البابا.
وفي 1870، اقتحمت القوات السردينية/ الإيطالية روما، وضربت حصارًا حول مقر البابا بيوس التاسع، الذي رفض الاستجابة لمطالب التخلي عن أراضي دولته لصالح الإيطاليين.
لم تعبأ سردينيا بهذا الرفض، وأعلنت ضمِّ مقاطعات الدولة البابوية إلى مملكة إيطاليا، وعزل البابا من منصبه وتجريده من صلاحياته.
وهو ما ردّ عليه البابا بيوست بتحصنه داخل الفاتيكان معلنًا نفسه "أسير الفاتيكان"، رافضًا الاعتراف بسيطرة مملكة إيطاليا على أراضيه.
وهو الحال الذي حافَظ عليه خلفاؤه من الباباوات، ولم ينتهِ إلا بتوقيع اتفاقية لاتران سنة 1929، بين موسوليني رئيس وزراء إيطاليا والبابا بيوس الحادي عشر، والتي نصّت على إنشاء دولة الفاتيكان، واعتراف البابا بقيام مملكة إيطاليا الموحدة، مع تعويضه ماليًا عن الأراضي التي خسرها إزاء هذا التوحيد.
لماذا اختطف نابليون بابا تلو الآخر؟ (هيستوري)
تطور السيادة البابوية (Lumen Learning)
تاريخ الكنيسة: ارتفاع وتدهور البابوية (Third Mil)
الدول البابوية (إنسيكلوبيديا)