نواصل هنا ملاحم أخرى مهمة في حياة فنان الكومكس الراحل ستان لي، بعد أن تحدثنا في مقال سابق – أنصح بقراءته أولًا – عن رحلته الشاقة والطويلة للنجاح في مجال تأليف الكومكس:
ستان لي.. القصة الحقيقية لـ السوبر هيرو الذي تحدى العنصرية
With Great Power Comes Great Responsibility
مع القوة المهولة تأتي مسؤوليات مهولة.
الجملة السابقة الشهيرة التي سمعها البطل كنصيحة أولًا ضمن مشاهد فيلم Spider-Man، المعروض عام 2002، وأصبحت لاحقًا الجملة الختامية التي سيرددها في مشهد النهاية، تلخص ربما مسيرة ستان لي بعد نجاحه في أوائل الستينيات وحتى وفاته.
من وقتها وحتى منتصف السبعينيات، أصبحت مارفل منافسًا شرسًا لدار نشر دي سي كومكس، بفضل طوفان من الشخصيات والسلاسل الناجحة التي شارك ستان لي في ابتكارها، وعادت روايات الكومكس لتصبح جزءًا مهمًا من الثقافة الأمريكية الجماهيرية، وركنًا شبه ثابت في غرف ملايين الأطفال والشباب والكبار.
الشيء المميز بخصوص هذه الفترة أن ستان لي بدأ التواصل بشكل ثابت مع القراء، وخصص أكثر من باب وركن لأسئلتهم وملاحظاتهم. طريقة تواصله معهم كانت أقرب لصديق شاب، منها لمؤلف متكبر ورجل في الأربعينيات والخمسينيات من عمره، وبفضل هذه الطريقة نال شعبية وشهرة. نجح أيضا في تدشين اسم مارفل في وعي القارىء؛ بفضل اقحامه لاسم الشركة ومقرها، في بعض المغامرات والقصص!
نبيل فاروق | لغز كوكتيل نتجاهل أهميته حتى اليوم | حاتم منصور
يمكن القول أنه سبق زمنه، ونجح في فعل ما يفعله الكثير من المشاهير والمؤلفين حاليًا بفضل فيسبوك وتويتر وانستجرام وخلافه؛ صياغة نفسه كشخصية محبوبة لا يعشق القارىء فقط متابعة إبداعاتها، لكنه يعشق أيضًا طريقة حديثها ويتمنى مقابلتها. في المقابل، لم تخل هذه الشهرة من انتقادات مستمرة حتى اليوم لأسباب متعددة.
أشهر شخصيات ستان لي تم ابتكارها بمشاركة مبدعين آخرين، وعلى رأسهم جاك كيربي، لكن أغلبهم قرر العمل مع مارفل بشكل متقطع (فريلانسرز)، ليصبح بإمكانهم الإبداع والمشاركة في مساحات وشركات نشر أخرى. في المقابل، اختار ستان لي أن يكرس جهوده بالكامل لمارفل حصريًا. وبالفعل، أصبح سريعًا العقل المدبر والدينامو الرئيسي للشركة، والواجهة الإعلامية لها.
مع هذا الفارق، ومع تواصل النجاحات، كان من المنطقي أن تمنح إدارة مارفل تدريجيًا مزيدًا من الصلاحيات والامتيازات لابنها البار، وأن يتعامل الاعلام مع ستان لي باعتباره مركز الإبداع الرئيسي فيها. النتيجة الحتمية كانت حالة إحباط لدى الباقين، بالأخص كيربي، الذي رأى نفسه كشريك مساوٍ في الإبداع، لكن بلا مساواة من أي نوع في العائد المادي أو المعنوي أو مستوى الشهرة.
الجدل بخصوص حصول ستان لي على أكثر من حقه، ومساهمته عمدًا في تجاهل الآخرين المشاركين في العملية الإبداعية لا يزال مستمرًا حتى اليوم. يرى البعض أن كيربي بالأخص تعرض لظلم رغم كونه صاحب نصيب أكبر من ستان لي في هذا الإبداع. الإثبات المزعوم على هذه النقطة هو حقيقة أن اسهامات ومحاولات ستان لي لابتكار جديد ناجح بعيدًا عن هذه الأسماء، لم تثمر عن شيء.
Spider-Man: Far from Home.. سبيدرمان بعيداً عن وطنه وقريباً من أصله | حاتم منصور
فعلا. المحاولات اللاحقة الابتكارية لستان لي بعيدًا عن رفاقه القدامى، لم تثمر عن شخصيات ناجحة وقوية مماثلة بالفعل، لكن هذا ما حدث أيضًا لـ:
من المنصف اذًا أن نقول أن ستان لي أخرج أفضل ما لدى هؤلاء، وأنهم أخرجوا أفضل ما فيه، وأن تحميله مسؤولية فارق الشهرة، أو الادعاء أنه انتزع لنفسه عمدًا وزورًا الكعكة كلها، لا يخلو من تحامل. إبداع الآخرين استمر فعلًا بعد الانفصال على مستوى الرسومات والصور – بالأخص في حالة كيربي – لكن السرد والجمل الحوارية البسيطة المناسبة للأطفال، والردود الذكية للشخصيات، والربط الموفق بين هذه الأبطال وبعضها في مغامرات مشتركة، كان نقطة تفوق واضحة في أعمال ستان لي.
النقطة الأخرى المهمة أن ستان لي كان صاحب حضور إعلامي مميز، واستمر كذلك حتى وفاته رغم كبر السن. في المقابل، أغلب زملائه افتقدوا لهذه الصفة، ولا يجوز لومه على ذلك. بعضهم لم يهتم من الأساس. ستيف ديتكو مثلًا رفض باستمرار كل العروض للظهور إعلاميًا، وظل كذلك حتى وفاته في يونيو 2018.
يضاف إلى ذلك أن بعض هذه الأسماء غادر عالمنا قبل الصحوة العالمية لشخصيات الكومكس مؤخرًا بفضل هوليوود. كيربي مثلًا توفي عام 1994، ولم يحظ بنفس فرص ستان لي في حصد ثمار نجاح أعمالهما المشتركة على شاشات هوليوود.
ديدبول ينعي نفسه ويصلح هوليوود في Deadpool 2
ما فعله ستان لي في الحقيقة إذًا، ورغم كل الانتقادات، أفاد كل الفنانين في مجال الكومكس، سواء تعاملوا معه أو لا. الرجل فتح الباب لسوق أكبر وجمهور أوسع، وأثبت لعشرات أن الاستثمار في هذا المجال ليس خطأ، وأن القناعة السابقة باستحالة المنافسة مع دي سي كومكس العملاقة، لم تكن سوى وهم.
مع هذا النجاح والحضور الإعلامي، لم يعد ستان لي مجرد سفير للحديث عن مارفل، أو عن الشخصيات التي ساهم في ابتكارها وحدها، أو حتى عن الكومكس عمومًا وحسب، بل أصبح أيضا تدريجيًا اسم له وزنه في صناعة الترفية عامة.
بمرور الوقت وانتقال أطفال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، لإدارة الاعلام والصحافة وخلافه في الثمانينيات والتسعينيات، ارتفعت معدلات الاحترام لفن الكومكس الأمريكي، ولم يعد يُصنف كمجرد روايات مسلية للأطفال. الأهم أنه نال أخيرًا تصنيفه المعاصر الذي أتفق معه بشدة، باعتباره أقرب ما يكون لميثولوجيا أمريكية (اللفظ يشير الى دراسة الأساطير التي تميزت بها الشعوب القديمة، مثل الأساطير الفرعونية والإغريقية والصينية وخلافه).
هل تحققت أسطورة نحس رفعت إسماعيل في مسلسل ما وراء الطبيعة ؟ | حاتم منصور
ستان لي كان أفضل سفير للتحدث عن هذا الفن؛ المزيج الفريد في شخصيته بين الطابع الأمريكي البسيط المرح المحبب، والذكاء في صياغة الإجابات أمام أسئلة الاعلاميين، والمعرفة الواسعة بجذور هذا الفن منذ بداية انتشاره بفضل شخصيات مثل سوبرمان وباتمان، عناصر لم ولن تتوفر لفنان غيره.
ربما يتساوى مع غيره فعلًا في حجم الإبداع الذي قدمه لهذا الفن على المطبوعات الورقية، لكن لم ولن يتساوى مع أي منهم في حجم عطائه الإعلامي والثقافي لهذا الفن. سيظل غالبًا وللأبد بطل الكومكس الذي لا تملك أمامه الا أن تبتسم، وأن تستمع باهتمام لحواديته التي لا تنتهي عن هذا الفن، وعن حياته وذكرياته الشخصية أيضًا. شاهد مثلًا هذا الفيديو.
في الجزء الثالث، نستكمل قصة هذا البطل الخارق، مع الملحمة الأهم التي انتقل بفضلها لعالمية أكبر، ولأجيال أصغر في العقود الأخيرة، وهي السينما. لكن قبل أن نغادر عالم الكومكس لشاشات هوليوود، أترككم مع بعض الرسومات المميزة للمبدعين والأبطال الذين شاركوا ستان لي رحلته الخارقة.