عمر البشير، 75 عامًا، بات خارج السلطة في السودان للمرة الأولى منذ وصوله للحكم بانقلاب عسكري سانده الإسلاميون قبل ثلاثين عامًا. ساعات فقط فصلت بين إعلان الجيش رسميًا نيته منع التظاهرات “غير المشروعة والمخالف للقانون”، وتدخله لعزل قائده الأعلى واعتقاله.
خطة منع التظاهر أعلنها ثم سحبها المتحدث باسم الجيش السوداني اللواء أحمد خليفة الشامي، قبل أن تمر ساعات لتعلن القوات المسلحة “بيانها المهم”.
التحليلات تدفع بالمشهد الجديد في السودان ما بعد عزل عمر البشير إلى أحد سيناريوهي الجزائر أو الجارة ليبيا.. فإلى أي السينايوهات يتجه المشهد؟ نرصد آخر التطورات في:
بعد طول صمت، خرج اللواء أحمد خليفة الشامي، المتحدث باسم الجيش السوداني، بتصريحات تليفزيونية/ الأربعاء، أعلن فيها قرار اللجنة الأمنية العليا بمنع الاحتجاجات بالقوة، واصفًا التظاهرات بـ “تجمعات غير مشروعة وخارجة عن القانون”.
الشامي أعلن أن الجيش سيتعامل مع الاحتجاجات منذ اللحظة، ولن يسمح بمزيد من التظاهرات أبدًا، معتبرًا أن “تسامح القوات المسلحة أغرى بعض المتفلتين بالتمادي”، وأن المحتجين لا يمثلون كل الشعب السوداني الذي يصل تعداده السكاني إلى 40 مليونًا.
وتمسك المتحدث العسكري بتوصيف الرئيس عمر البشير بـ “القائد الأعلى للقوات المسلحة”، معتبرًا أن الدستور ينظم تنفيذ مطالب المحتجين المشروعة وفق الانتخابات، وأن أي “تغيير معتبر يتم وفق الأطر القانونية والدستورية التي تنظم التداول السلمي للسلطة”.
وكشف الشامي أن تدخل الأجهزة الأمنية لفض الاعتصام في محيط مقر قيادة الجيش جرى بالتنسيق مع القوات المسلحة ووفق القانون، مشيرًا إلى “معلومات مؤكدة كشفتها استخبارات الجيش المنتشرة بين المتظاهرين باندساس جهات منفلته بين المتظاهرين.
واتهم المتحدث باسم الجيش السوداني الاعتصام بـ ” خلق حالة من السيولة الأمنية التي قد تجر البلاد إلى فوضى”، مؤكدًا أن الفض يجري وفق التعليمات الواردة من اللجنة الأمنية. “تبقت مجموعات صغيرة سنتعامل معها وفق القانون”.
بعد ساعات، نفي الشامي نفسه وجود أي خطة لفض الاعتصام في محيط مقر قيادة الجيش، معتبرًا أن “ما تم من إجراءات سابقًا كان لإبعاد المواطنين عن حرم قيادة الجيش”.
وبحلول صباح الخميس، أعلنت وكالة الأنباء السودانية الرسمية “سونا” عن بيان مهم للقوات المسلحة، تأخر سبع ساعات، تسربت خلالها معلومات عن عزل الرئيس عمر البشير ووضعه قيد الإقامة الجبرية، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي، وسط أنباء عن خلافات كبيرة بين القيادات العسكرية، واعتقالات طالت المئات من القيادات السياسية والعسكرية.
خرج لاحقًا وزير الدفاع عوض بن عوف ببيان عسكري متفلز أكد فيها التسريبات، دون أن يعلن التشكيل النهائي للمجلس العسكري الانتقالي، في تأكيد ضمني لأنباء الخلاف داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية.
“قررنا تنفيذ ما لم يتحسب له رأس النظام، وتحملنا تغيير كل النظام لفترة انتقالية تمتد لعامين، تتولى فيه القوات المسلحة المسؤولية، وعليه أعلن أنا وزير الدفاع اقتلاع رأس النظام واعتقاله في مكان آمن“، يقول بيان الانقلاب على عمر البشير الذي تلاه وزير الدفاع.
بيان الجيش السوداني صدر باسم كل الأجهزة الأمنية والعسكرية. انتقد “سوء الإدارة وغياب العدل والفساد وانعدام الأمل”، وهاجم “وعود النظام الكاذبة”.
وتضمن البيان:
تشكيل مجلس عسكري انتقالي لمدة عامين.
تعطيل العمل بالدستور.
إعلان حالة الطوارئ 3 أشهر وحظر التجوال شهرًا.
إغلاق الأجواء والمداخل والمعابر.
حل مؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء بالكامل.
حل المجلس الوطني ومجالس الولايات.
استمرار العمل بالسلطة القضائية.
إعلان وقف إطلاق النار الشامل.
إطلاق سراح كل المعتلقيين السياسيين.
إجراء انتخابات حرة والتأسيس لدستور جديد بنهاية الفترة الانتقالية.
الالتزام بكل المعاهدات الثنائية والإقليمية والدولية، والتعهد بعلاقات دولية متوازنة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وحسن الجوار
البيان حمل حديثًا عن “إجراءات أمنية مشددة”، ولم يعلن تشكيل المجلس الانتقالي.
قبل ساعات من الإطاحة بالبشير، تجاهل الدبلوماسي السوداني السابق عبد الوهاب الأفندي، عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، دعم قطر للبشير، ليؤكد أنه “حال قرر البشير التدخل لفض الاحتجاجات بشكل أكثر عنفًا، فقد يقرر قادة الجيش أنه يتعين عليهم التخلص من البشير بدلًا من المحتجين”.
السيناريو يبدو قريبًا مما حدث فعلًا، بالنظر لبيان وزير الدفاع، الذي قال فيه إن “الأجهزة الأمنية تحملت ما لا يتحمله بشر، بعدما أصر رأس النظام على المعالجات الأمنية دون غيرها”.
ومنذ اندلاع احتجاجات السودان في ديسمبر/ كانون الأول، حاول جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني السيطرة على الموقف بالغاز المسيل للدموع والاعتقالات والذخيرة الحية في بعض الأحيان، ليصل عدد القتلى وفق مجموعات طبية حقوقية إلى 60 محتجًا بحلول منتصف مارس/ آذار.
واكتسبت الاحتجاجات زخمًا عندما وصل المتظاهرون إلى مقر قيادة الجيش دون مقاومة تذكر، ليكتشفوا أن عناصر الجيش الذين يحرسون المجمع أبدوا تعاطفًا معهم، وصل لدرجة التدخل لعرقلة جهود أجهزة الأمن لتفريقهم، بحسب شهود عيان.
وبحسب المتظاهرين، فتح جنود من الجيش النار على قوات أمنية موالية للرئيس المعزول عمر البشير حاولوا فض الاعتصام بالقوة، وفتحوا بوابات الثكنة العسكرية للسماح للمتظاهرين بالوصول إلى أماكن آمنة داخل المجمع العسكري الضخم، الذي يضم أيضًا مقر إقامة البشير.
أدى تناقل المتغير الجديد بين المحتجين إلى تزايد أعداد المعتصمين، الذي يقول المنظمون إنه وصل إلى مئات الآلاف أحيانًا.
لاحقًا، أعلنت الشرطة السودانية رغبتها في توحد “كلمة أهل السودان إلى رشد وتوافق يعزز الانتقال السلمي للسلطة واستقرار البلاد”، داعيةً إلى “عدم التعرض” للمتظاهرين.
مجدي الجزولي، زميل معهد ريفت فالي لدراسات شرق أفريقيا، وصف الاشتباكات بين قوات حكومية مسلحة تحت القيادة المباشرة للرئاسة وأخرى تابعة للجيش بـ “تطور كبير”، لكن طبيبًا شابًا – رفض كشف هويته لمخاوف أمنية – تحدث لنيويورك تايمز، حول نقاشات أجراها مع بعض الجنود الذين سمحوا للمتظاهرين بالاحتماء داخل مقر الجيش، وكان من الواضح أنهم كانوا يتصرفون ضد الأوامر الصادرة إليهم.
يضيف الطبيب أن أحد الجنود قال إنه يخشى إعدام مخالفي الأوامر إذا فشلت الاحتجاجات واستمر حكم عمر البشير.
إبراهيم طه أيوب، الذي شغل منصب وزير الخارجية السوداني في منتصف الثمانينيات، والمشارك في النسخة الحالية من الاحتجاجات، يقول إن تعاطي الرتب العسكرية الأعلى مع المعتصمين في محيط مقر قيادة الجيش لم يكن واضحًا، مؤكدًا – قبل إعلان بيان الإطاحة بالبشير – أن قادة الجيش يدعمون الرئيس عمر البشير، لكن المعارضة عملت على استمالة المتذمرين بين الرتب المتوسطة.
ما يزيد علامات الاستفهام حول “فردية تصرف الجنود” أن تصريحات المتحدث باسم الجيش قبل ساعات من الإطاحة بالبشير أشارت للتنسيق بين القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لفض الاعتصام.
وزير الدفاع في بيانه اعترف بـ “بعض السقطات”، لكنه قال إن الأجهزة الأمنية والعسكرية تعاملت بأعلى درجات المهنية والاحترافية.
وأضاف عوض بن عوف أن “ما جرى مقر القيادة الجيش أظهر بوادر إحداث شروخ في مؤسسة عريقة، نبهنا به رئاسة الدولة، وحذرنا من خطورتها، لكننا اصطدمنا بإصرار وعناد وتمسك بالحلول الأمنية رغم تعذرها والخسائر الكبيرة التي كانت ستترتب عليها”.
بعد طول صمت، أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج بيانًا مشتركًا عبر سفاراتها في الخرطوم قبل الإعلان عن خطوات الجيش، قالت فيه إنه آن الأوان لعرض سلطات السودان لـ “خطة انتقال سياسي تحظى بمصداقية”.
وأصدرت السفارة البريطانية بيانًا منفصلًا قالت فيه إن مطالب التغيير من المحتجين كانت “جادة وشرعية”.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2017، خففت الولايات المتحدة العقوبات ضد السودان، مشيرة إلى تخفيف حدة النزاعات داخل البلاد والتقدم المحرز في مكافحة الإرهاب.
ونقلت فورين بوليسي عن مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأمريكية إنه من المهم مواصلة المحادثات مع الخرطوم، معتبرًا أن الفضل في تقييد رد فعل البشير على الاحتجاجات نسبيًا يرجع لضغوط واشنطن الجزئية.
أجمع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، صاحب الأغلبية في البرلمان السوداني المنحل، ومنظمو الاحتجاجات في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير وتجميع المهنيين، على رفض بيان وزير الدفاع.
وبعد اعتقال معظم قيادات المؤتمر الوطني، اعترف نعمان عبد الحليم، عضو القطاع السياسي لحزب البشير، بتعرض الحزب للشلل، واصفًا بيان الجيش بالانقلاب على الشرعية، والإقصاء للأحزاب السياسية المدنية لصالح عسكرة الدولة.
واتهم عبد الحليم المشاركين في بيان الجيش بمحاولة تجميل وجوههم على حساب عمر البشير بعدما فشلوا هم شخصيًا في إدارة الوضع الأمني.
وطالب عبد الحليم المجتمع الدولي والعالم بالتدخل لوقف محاولة الانقلاب على الشرعية.
وفي المعارضة، أصدر تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير بيانًا مشتركًا، وصف فيه بيان الجيش السوداني بـ “محاولة للالتفاف على مطالب الشعب بعد فشل الأمن في التصدي للثورة”، معلنًا رفض البيان، ومواصلة الاعتصام أمام مقرات الجيش في الخرطوم وباقي الولايات حتى تسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية.
نائبة رئيس حزب الأمة مريم صادق المهدي وصفت الإعلان بـ “مسرحية غير محكمة بين طرفي انقلاب 1989″، معتبرة أن وزير الدفاع لا يتحدث من منطلق دستوري ولا يعبر عن الجيش.
صلاح شعيب، المتحدث باسم تجمع المهنيين، قال إن الحراك لن يتوقف حتى تسلم المعارضة زمام الأمر في البلاد، بينما قال عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، إن المعارضة متمسكة بسلطة انتقالية مدنية يمكن للجيش أن يشارك فيها عبر ممثل واحد.
تقول نيويورك تايمز إن تحديد نسبة كل جهاز في معادلة قوة الأجهزة الأمنية السودانية معقد؛ بعدما عزز الرئيس عمر البشير العديد من الأجهزة الأمنية خارج هياكل القيادة العسكرية، ما حال دون نمو أي جهاز أمني قوي بما يكفي لتحديه بشكل منفرد.
تضيف أن البشير بنى جهاز المخابرات والأمن الوطني، ودعم ميليشيات الجنجويد، قبل أن يعيد تشكيلها مؤخرًا باسم قوات الدعم السريع.
هذه القوات بدأت تحركت إلى الخرطوم خلال الساعات الأخيرة، ونصبت حواجز أمنية على الطرق المؤدية إليها في الأيام الأخيرة، بحسب شهود عيان.
نائبة رئيس حزب الأمة تقول إن وزير الدفاع عوض بن عوف هو نفسه الذي أشرف على تشكيل قوات الدعم السريع، التي سببت الكثير من المشكلات الضخمة للجيش.
وتنقل فورين بوليسي عن مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين لم تسمهم إن عددًا من كبار جنرالات الجيش في السودان يعتبر أن اعتماد عمر البشير على جهاز المخابرات السودانية هو السبب في وصول البلاد للحالة الحالية من النبذ دوليًا.
في الأسابيع الأخيرة، بدا أن زخم الاحتجاجات تباطأ تدريجيًا، بما أعاده مراقبون جزئيًا إلى حالة الطوارئ التي فرضها عمر البشير في فبراير/ شباط والقمع العنيف الذي انتهجته أجهزة الأمن ضمن المحتجين، لكن قوة المظاهرات تجددت، بعد أقل من أسبوع من موافقة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة.
لا يستبعد المراقبون الإلهام المحتمل من الجزائر. وفي حين أن قبضة الرئيس عمر البشير على السلطة كانت تبدو أقوى بكثير من بوتفليقة، لكن موقف الأول ازداد ضعفًا إلى حد ما مع تزايد الاحتجاجات، التي لا تبدو السلطة – رغم البيان – واثقة من الخطوة الأنسب للتعامل معها.
يتخوف مراقبون من دخول السودان مرحلة من الفوضى، خصوصًا مع الوضع الإقليمي المعقد؛ مع حالة الشلل التي ضربت الجارتين ليبيا وجنوب السودان بسبب الحرب الأهلية.
ويتخوف مجدي الجزولي، زميل معهد ريفت فالي لدراسات شرق أفريقيا، من تحول الأزمة بطريقة ما إلى معضلة داخلية بين قوات الأمن، ما يعني أن أطراف السلطة فشلت في الوصول إلى حل من الداخل، محذرًا من أن السيناريو الأسوأ يتمثل في انهيار المؤسسة الأمنية العسكرية.
الجزولي يتخوف أيضًا من أن نفس الجيش زرع الرعب في أنحاء البلاد أثناء قتال المتمردين، وارتكب ما وصفها بـ “جرائم ترقى لمستوى الخيانة”.
أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي يرى أن القتال وصل إلى داخل النظام، وخاصة على مستوى التنافس بين جهاز المخابرات والجيش”.
وتقول فورين بوليسي إن إف بي آي حصل عن وثيقة استخبارات سودانية تفصل أوامر المراقبة ضد قيادات عسكرية، معتبرة أن ذلك التنافس يقدم لمحة عما قد يحدث في الفترة المقبلة.
يقوم دي وال: عندما يكون لديك نظام قائم على هذا التعقيد، فإن إزالة الرئيس يعني قطع الرأس في عصابة. التنافس الذي سيندلع بين من دونه قد يؤدي إلى حرب أهلية.
”القضية في السودان ليست الاستبداد مقابل الديمقراطية. السؤال هنا هل تختار نظام حكم أوتوقراطي جيد التنظيم، أو تحالفًا من قادة الأمن، أو الفوضى؟.. الأسوأ هو أن يتحرك هؤلاء جميعًا”.
جود ديفيرمونت، مدير برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن وكبير المحللين السابق بوكالة الاستخبارات المركزية يحذر من سيناريو ليبي في السودان، وينبه إلى أن المعضلة تتمثل في إيجاد وسيلة تحول دون تفكيك الدولة بعد سقوط البشير.
ولا يستبعد العديد من المحللين حدوث أسوأ السيناريوهات بالوقوع في الفوضى العنيفة والصراع المستمر مثلما حدث في العراق أو ليبيا، خصوصًا مع ضعف فرص رحيل البشير خارج البلاد؛ بسبب تهم الإبادة الجماعية التي يواجهها في المحكمة الجنائية الدولية.