مجلة شارلي إبدو الفرنسية الساخرة تعاود فرض نفسها في بؤرة اهتمام الدول ذات الأغلبية المسلمة بعد اغتيال مدرس لأنه عرض على طلابه رسوما لها تتناول النبي محمد، الذي تُحرِّم كافة المذاهب الإسلامية تجسيده بأي شكل.
الخطوة الأولى تعود للعام 2006، عندما أصبحت شارلي إبدو واحدة من أشهر الصحف التي يعرفها المسلمون حول العالم حين أعادت نشر رسوم كاريكاتورية ساخرة تتعلق بالنبي محمد سبق أن نشرتها صحيفة “جيلاندس بوستن” الدنماركية وأثارت غضب المسلمين، في خطوة أدانها الرئيس الفرنسي، حينها، جاك شيراك، في بيان رسمي.
لم تتوقف المجلة الأسبوعية كثيرًا أمام البيان، فواصلت نشر المزيد من الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، لتجبر الدولة الفرنسية على اتخاذ إجراءات احترازية واسعة، شملت إغلاق القنصليات والسفارات والمراكز الثقافية والمدارس الفرنسية في عددٍ من البلدان ذات الغالبية المسلمة. وبالرغم من ذلك، استهدف هجوم دموي مقر شارلي إبدو أسفر عن مقتل 12 شخصًا.
كل ذلك لم يمنع المجلة من مواصلة نهجها. أعلنت صراحة أنها ليست نادمة على ما تسببت فيه من أزمات. موقف كان رسام الكاريكاتور ستيفان شاربونييه، الذي قُتل في حادث اقتحام الجريدة، لخصه قبيل اغتياله: “قلمي لا يعرض الأرواح للخطر”، واصفًا الحديث عن خطاب شارلي إبدو المُعادي للإسلام بـ “مجرد حجة يستخدمها المتطرفون لتبرير عُنفهم”.
الآن، وبعد خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول خطط الجمهورية الفرنسية للتصدي لـ “الانفصاليين الإسلاميين”، واصلت شارلي إبدو تحدي خصومها في آخر أعدادها. فلماذا تفعل كل هذا؟
هل يكره ماكرون الإسلام؟ ما الذي أزعج رجال الدين فعلًا في خطابه؟| فيروز كراوية
في 1970، توفي الزعيم الفرنسي شارل ديجول، الذي يُوصف بمؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة. بالتزامن مع مقتل 149 فردًا في حريق ضرب ملهى ليلي داخل مدينة سان لوران دو بونت.
بطبيعة الحال، جذبت وفاة ديجول الأنظار تمامًا، ولم يلتفت أحد إلى حادث المرقص، وهو ما حاول صنّاع المجلة الكاريكاتيرية “هارا كيري Hara-Kiri” السخرية منه في افتتاحية عددها.
وزير الداخلية الفرنسي، حينها، ريموند مارسيلين، لم يقبل الأمر، ومنع الجريدة من النشر.
بعد أسبوعٍ، أطلق رسامو “هارا كيري” جريدة جديدة أسموها “شارلي إبدو”، ومنحوها لقبًا لافتا للانتباه “مجلة غير مسؤولة”.
“إيبدو” معروفة.. تشير لدورية الصدور أسبوعيًا بالفرنسية. لكن الآراء تضاربت الآراء حول المغزى من اختيار “شارلي”. البعض يزعم أنه سخرية من اسم شارل ديجول، فيما يربطه آخرون بِاسم رسام الكاريكاتير الأمريكي الشهير شارلي براون.
في جميع الأحوال، بقي الاسم مُعبّرًا بشدة عن النهج التحريري الذي قرّرت المجلة الالتزام به من وقتها وحتى الآن، وهو ما يُمكن تلخيصه في جملتين: “لا قداسة لأحد” – “كل الشخصيات العامة ليست أهم من غيرها، ولا من الحياة نفسها”.
يوم انتصر الإخوان للنبى.. وركع محمد مرسي ورفاقه لأمريكا | عمرو عبد الرازق
صحيح أن العديد من محرري شارلي إبدو يحاولون اختزال رسالتهم الإعلامية في أنهم لا يختلفون عن أي مجلة كاريكاتورية ساخرة أخرى، وأنهم لا يريدون إلا الضحك والدعابة، مثلما قال محررها لوران ليجر متحدثًا عن جدوى كل هذه المعارك الذي يخوضونها، فقال: “الهدف هو الضحك، نريد أن نضحك على كل المتطرفين مهما كانوا مسلمين أو يهود او كاثوليك، يمكن للجميع أن يكونوا متدينين، لكن الأفكار والأفعال المتطرفة لا يمكننا قبولها”.
لكن نظرتنا للرسالة الإعلامية للمجلة ستكون شديدة السطحية، إن اعتبرناها فقط مجرد رسومات ضاحكة من فنّانين مارقين لا حدود لعبثهم.
فباستخدام الفن الكاريكاتوري الذي يُتيح لصاحبه القُدرة على التملّص من كافة قيود المدارس الفنية التقليدية لم يتوقّف رسّامو شارلي إبدو عن التعبير عن رؤيتهم التحريرية بالرمز تارة وبالإشارة الواضحة تارة أخرى، ليُقدِّموا وجبة فكاهية صحفية فريدة باتت حديث العالم.
الباحثة جان وسيتون، التي أعدّت دراسة دكتوراة عن شارلي إبدو تعتبر أن هذا الفن الكاريكاتوري الساخر للمقدس يعود إلى الأنشطة القديمة المناهضة للملكية، والتي عرفها الفرنسيون بداية من العام 1830.
وتضيف أن أحد محرري الجريدة أخبرها أن الكتابة في أكثر المواضيع المحظورة تثير أكبر كمية من الضحك.
هل أعلنت أوروبا الحرب على ثقافة المستضعف/المتسلط؟ ماذا يفعل المسلم العادي؟ | خالد البري
لا يُمكننا فهم النهج التحريري الذي تبنّته شارلي إبدو دون فهم دقيق للحالة الفرنسية كدولة تمرُّ بالعديد من المصاعب والتناقضات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود يقول في كتابه “من هو شارلي؟ Qui est Charlie”، إننا “لو نزعنا قناع شارلي إبدو سنُطالع وجه رجل فرنسي أبيض يكره الأجانب والعولمة، ويتمنّى الحفاظ على الروح الفرنسية”.
فرنسا لا تعتبر نفسها “دولة هجرة” كالولايات المتحدة، ولم تتبنَ أبدًا نهجًا يُشجّع على استقطاب اللاجئين إليها كما تفعل واشنطن، وهي المبادئ التي كانت عليها أن تُغيّرها قليلاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب حاجتها إلى عمالة عالية الكفاءة رخيصة الثمن، وهو ما أجبر باريس على فتح أبوابها أمام المهاجرين العرب فتدفقوا عليها بأعدادٍ كبيرة لعبت أثرًا في إحداث تغيير ديموغرافي على الأرض الفرنسية أصبح بموجبه الإسلام هو الديانة الثانية في البلاد، وتوطنّت جماعات كثيفة من المهاجرين العرب الذين تزوّجوا وأنجبوا أجيالًا جديدة لم تعرف لنفسها وطنًا إلا فرنسا.
بحُكم الإقامة الطويلة وتوطد دعائم وجودهم في فرنسا، طالب اللاجئون باعتبارهم مواطنين فرنسيين شأنهم شأن أصحاب الأرض، وهي القضية التي أحدثت زلزالًا في المجتمع الفرنسي لا يزال يُعاني منه حتى الآن.
بعدما انقسمت العديد من الجماعات السياسية الفرنسية على نفسها إزاء اتخاذ موقفٍ حاسم إزاء هذه القضية، وأشهرها الجبهة الوطنية الفرنسية، التي أسّسهت البرلماني والعسكري السابق جان لوبان، والتي تتخذ موقفًا بالغ العداء للمهاجرين بدعوى أنهم لا يتوافقون مع التقاليد الأوروبية.
وبالرغم من أن شارلي إبدو تُصنّف ضمن الصُحف اليسارية، فإنها تتبنّى هذا الموقف ذاته، وتُسخّر أقلام رسّاميها من أجل الترويج له.
الديمقراطية التوحيدية | هيا نلعب ونمرح تحت سقف المرشد الأعلى | خالد البري
شارلي إبدو تُقدِّم نفسها كمُدافعة عن القيم الجمهورية، المُستمدة من روح الثورة الفرنسية التي قامت بالأساس ضد تسلط رجال الدين (الإكليروس) ورفعت شعار “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، وأقامت نظامًا عالمانيًا ينظر للأديان دائمًا بعين الريبة ولا يغفر لها المآسي التي تسبّبت بها للبشر.
وإذا كانت هذه القيم كفلت تهميش دور المسيحية في فرنسا إلى الأبد، فغير مسموحٍ لأي دين آخر بأن يلعب دورًا أكبر من اللازم في الحياة الاجتماعية الفرنسية، التي تحدّها العلمانية من كافة النواحي.
رئيس تحرير شارلي إيدو جيرار بيار يقول إنه “بمجرد أن يتجاوز الدين المجال الخاص، يجب معاملته مثل أي رأي سياسي“. هذا الرأي لن يكون مقدسًا بطبيعة الحال كما هو في عيون مُريديه، وإنما سيخضع من قِبَل محرري شارلي إبدو للرفض والنقد والسخرية.
لذا كان الإسلام عدوًا مثاليًا لكل المنادين بحرفية التمسّك بالقيم الجمهورية الفرنسية، بسبب انتشاره الكثيف على الأراضي الفرنسية، وتمسّك معظم أتباعه الشديد بممارسة طقوسه علانية والسماح لتعاليمه بالتأثير على حياتهم الاجتماعية والسياسية.
تقارير أمنية فرنسية كشفت أن حالة التهميش التي عانى منها المسلمون من قِبل الحكومات الفرنسية دفعتهم أكثر ما يكون للالتفاف حول بعضهم، والتمسّك أكثر بتعاليم الإسلام كوسيلتهم الوحيدة للتميز على هذه الأرض التي ترفضهم.
هذا النهج الجمهوري يبدو بوضوح في معظم أعداد المجلة، التي لا يريد رسّاموها أن يتوقفوا عن تذكير الفرنسيين بماضيهم السيء مع الاستبداد الديني، لذا عليهم الاستهانة بكافة الرموز الدينية، مهما كانت، للحطِّ من شأنها والتأكيد دائمًا وأبدًا أنه لا قداسة لأحد، فالقداسة المُطلقة كانت طريق الاستبداد المُطلق الذي دفع الفرنسيون الكثير للتخلص منه.
رئيس التحرير جيرار بيار يقول إن فرض أي حظر على التعرض للأديان هو أمر فاسد، ويعتبر أن “الهجوم على الأديان يُشكِّل جزءًا من هوية الجريدة”، فيما يُضيف أحد محرريها: “يجب أن نستمر حتى نُقلِّل من شأن الإسلام مثلما حدث مع الكاثوليكية”.
إخواني المغرب العربي صنيعة طارق رمضان.. اللغة فرانكفونية والمعنى قرضاوي | هاني عمارة
واحدة من أهم قواعد الديمقراطية الفرنسية ليست فقط حرية الصحافة في طرح القضايا، وإنما في أن تمتلك “الحق في الإساءة”، والتي تُعدُّ مُكونًا أساسيًا للثقافة الفرنسية.
ولا توجد مادة في القانون الفرنسي تُعاقب أصحابها على الكفر والتجديف بالأفكار بعيدًا، وهو ما تحاول شارلي إبدو إثباته دومًا بنشر هذه الأفكار علنًا على صفحاتها الأولى، كأنها تتحدّى مدى صبر المجتمع على السماح بهذه الأفكار بالنشر والانتشار علانيةً ضمن معاركها الدائمة لاقتناص أكبر قدرٍ من الحرية “التي لا تسقط من السماء”، بحسب تعبير لوران سوريسو مدير المجلة.
في هذه الزاوية، تحديدًا، تسعى المجلة دائمًا لاستشراف مدى تمتّع المجتمع بها عن طريق تعريضه لأقصى اختبار ممكن وهو إهانة المقدسات، فيرفضون مبدأ وجود حظر على تجسيد شخصية دينية بسبب حساسيات عقدية.
شارلي إبدو ترى أن إهانة المقدسات هو الطريق الناجح لمحاربة الأصولية والتطرف ونشر قيم الحرية في المجتمعات، وهو ما يتّضح في الحديث الذي زعمت وسائل الإعلام الفرنسية أنه جرى خلال محاكمة سونيا إحدى الدعشيات الفرنسيات، حين وجّهت رسالة مباشرة إلى صحفي شارلي إبدو. قالت له فيها “لا تتوقف، أنتَ تمثّل الحرية، وهذا أكثر ما يكرهونه، فهم لا يريدون أكثر من خلق مجتمع مختنق”.
نظرة أعمق | أفخاخ الإسلاميين.. كيف يتلاعبون بالألفاظ لتمرير أفكار تخدمهم؟ | هاني عمارة