من حسين صدقي إلى محمد سامي.. كيف أصبحت الطبقة الفنية سلفية؟ | فيروز كراوية

من حسين صدقي إلى محمد سامي.. كيف أصبحت الطبقة الفنية سلفية؟ | فيروز كراوية

18 Oct 2020
فيروز كراوية
سينما مصرية
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

بدأ الممثل أحمد الرافعي في رمضان الماضي – بتعليقه على اغتيال فرج فودة – سلسلة جديدة من استعراضات متعددة لآراء فنانين مصريين حول قضايا فكرية واجتماعية.

السوشال ميديا غيّرت طبيعة الجماهيرية الفنية. لم يعد بإمكان الفنان الانعزال عن باقي الأوساط غير الفنية والاكتفاء بالحديث عما يخص شئون مهنته. الردود النمطية من نوعية “شوف شغلك ومالكش دعوة” أو “ليه بتتكلم في اللي ما تفهمش فيه يا فنان” ردود لا تفهم طبيعة التغيّر.

كلما اختلف الوسيط الإعلامي، تغيّرت معه أنماط مشاركة الفنانين في الحياة العامة: الميديا والجمهور. الميديا هي الوسيلة والجمهور هو المجتمع. الصناعة الفنية الجماهيرية إذن غير مطلقة الحرية ولا تسبح في الفضاء.

منذ ظهور الراديو والتليفزيون، بدأت صناعة النجم في تعميق ارتباطها بالمجتمع المحيط. هيئة الفنان قليل الظهور حرصًا على الصورة والتشويق والغموض ومفاجأة الجمهور بدأت تتلاشى تدريجيًا، حتى وصلنا لعصر يتشارك فيه الجميع صناعة المحتوى. تنتهي عصمة الفنان بوصفه المنوط بخلق “عمل فني” وانتظار التعليقات بشأنه من النقاد والأرباح من الجمهور.

صوتًا وصورة |شرط التكفير الذي منحه أحمد الرافعي والأزهر لداعش دون التنويريين | الحكاية في دقائق

الإنتاجية للجميع.. المبدع والمتلقي

صارت “التويتة” فنا. مسابقة إبداعية في كتابة سطور قصيرة يمكن أن يصادفها الحظ وتحصد آلاف الريتويتس، ليصبح كاتبها صانع محتوى شهير- “فنان شهير”.

وصرنا في عصر “الإنتاجية للجميع” Producerism حيث المنتج والمستهلك يقفان في مربع واحد. وهو عصر سقوط الحجاب الأخير بين المجال الفني ومتلقيه. الحجاب الذي كان من شأنه إضفاء قيمة خاصة على مفهوم الإبداع والقدرات والدراسة في الأكاديميات الفنية. وكذلك قيمة خاصة على النقد بوصفه مهنة ودراسة واحتراف.

لم يعد الجمهور إذن رقمًا نعرف عن طريقه مدى النجاح أو الفشل لعمل فني بحساب شباك التذاكر أو الأرباح. هو الآن رقم له صوت مسموع ومقروء. النقد ملقى على قارعة الطريق. في بوست هنا وتويتة هناك. مش هي دي الديمقراطية؟ ده رأيي واللي مش عاجبه هو حر؟

لا سيطرة إذن لميديا مركزية نخبوية كالإذاعة والتليفزيون على التوجهات العامة. ذابت الميديا المركزية في الميديا الجماعية حيث المستهلكين غير محرومين من الإنتاج أيضًا.

تحرشوا تصحوا: الحق والحقد والسينما النظيفة | خالد البري

السوشال ميديا.. الرقم الأهم

تدريجيًا، يدرك الفنان أن موقعه لم يعد يختلف كثيرًا عن المتلقي. هو أيضًا يتسابق على إنتاج المحتوى وتوظيف شهرته الفنية للاستمرار على ساحة أصبحت تحتوي ما يزيد عن الطاقة من “المنتجين”. هل تكفي الأعمال الفنية التي يشارك فيها وجلسات التصوير والأخبار الفنية لملء حساباته بشكل دوري على مدى اليوم الواحد، بينما تنهال التعليقات والإبداعات التي تفوق ما يحصده من لايكات بخصوص أعماله؟

بالطبع لا تكفي.

تدريجيًا يتحول الفنان بشخصه لمحور الاهتمام وليس بأعماله. شخصه متاح دائمًا، بينما أعماله قليلة بطبيعة الحال: مسلسل وفيلم مثلًا كل سنة للفنان النشيط المشهور. بل إن توظيف شخصه وكثافة متابعيه ورضاهم عن أدائه على السوشال ميديا هو المفتاح ربما للتواجد في الأعمال الفنية. الرقم الأهم على السي في.

إذن، الآلية هي أن يذوب الفنان أكثر في المجموع.

وهي آلية عكسية تمامًا بالنسبة لمن ينظرون للطبقة الفنية على أنها بالضرورة “متقدمة” عن المتوسط العام.

نموذج الفنان المتفرد الذي يحمل أحيانًا أفكارًا أو أسلوبًا فنيًا غير تقليدي أو جديدا ومبتكرا أو صادما للرأي العام، ومن هنا يصنع تميّزه ويخوض معركته، نموذج يتوارى تدريجيًا.

النموذج هو صناعة التميز الفردي في نظر المجموع. إما الدعاية السلبية بإلقاء القنابل التي يرفضها الرأي العام، لكنها تجعل من مشاركة الفنان “ترند”، أو الدعاية الإيجابية بأن يلقي الفنان بأكثر الآراء توافقًا مع أغلبية المجتمع فيحصل على “الشابو”.

يوسف الشريف والمشاهد الساخنة.. وصاية أخلاقية أم حرية شخصية؟| مناظرة في دقائق

لمن الغلبة اليوم؟

السوشال ميديا في مصر اقتحمتها في البداية “طليعة” شابة ظنت أن بامتلاكها الوسيلة التكنولوجية تستطيع أن تحتكر التأثير على الرأي العام. بإثارة قضايا جدلية ومعارك فكرية بين أقطابها، أو حديث عن الحريات المقموعة أو المشكلات الاجتماعية المسكوت عنها. لكن بعد وقت قصير، ثبت أن تفاؤلها سراب. فقد دعت الميديا الديمقراطية الجميع. ووزّعت الإنتاجية على الجميع.

في مجتمعنا الذي نعرف جيدًا الغلبة لكل ما هو ماض. أصولية دينية واجتماعية وتاريخية وثقافية تجذب الأغلبية للوراء دائمًا: للفن زمن جميل نترحم عليه.. ماضٍ.

للدين زمن ريادة حكم فيه المسلمون جزءًا معتبرًا من العالم.. ماضٍ.

للتاريخ بطولات ومعجزات حضارية نتشبث بها.. ماضٍ.

للأخلاق نمط يعبّر عن المجتمع الملتزم المثالي أين نحن مما كنا عليه.. ماضٍ.

متحرش السينما..أسطورة عادل إمام الذي خرب المجتمع | حاتم منصور

زمن “السلف” الجميل

هكذا الأصولية دائمًا. السلف أفضل من الخلف. حتى لو زوّرنا قليلًا أو كثيرًا في الحكايات والروايات. حتى لو اختلقناها بالكامل. حتى لو لم ننظر لعيوب وأخطاء وسقطات الرموز التاريخية. حتى لو لم ننظر إحصائيًا، على سبيل المثال، لأن ما يعيش في عصرنا الآن من تراث “زمن الفن الجميل” هو ما امتلك الجودة الفنية ليعيش. وهو نسبة قليلة جدًا مما أنتجه السلف. نسبة عظيمة لكن قليلة. لا تعكس أبدًا أننا كنا ننتج الأفضل دائمًا. ولا تعكس أبدًا آراء الجمهور والنجاحات في فترة إنتاجها. فيلم “باب الحديد” الذي صنّف في أعلى المراتب في الإنتاج السينمائي المصري كان فيلمًا فاشلًا يكرهه الجمهور في وقت إنتاجه.

لكن صورة السلف إذن منزّهة. تحميها الأغلبية وتكره من يحاول التمحيص بشأنها. وتدفع الفنان لتقليدها وإعادة إنتاجها. ثم تقليدها ثانية وثالثة وإعادة إنتاجها.. مع إضافة رتوش العصر. النسخة التي تظل تبهت عن الأصل حتى تصبح مسخًا.

موت القبلة الأولى | انهيار الحب وازدهار البورن في السينما النظيفة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

يوسف الشريف VS حسين صدقي.. ماذا تغير؟

صحيح أن يوسف الشريف على نمط حسين صدقي لا يريد ملامسة زميلاته أثناء التصوير. لكن حسين صدقي لم يكن في صالحه أن يعلن هذا كل وقت وحين. كان مشروعًا مستترًا يريد الإخوان المسلمون تمريره ودعمه في مجتمع لا يقبله بسهولة. لكن المجتمع انهارت مناعته النقدية عبر العصور. تمكنت منه السلفية وأدارت رؤوسه كلها نحو الماضي. حصدت السينما النظيفة التي دافع عنها المنتجون والممثلون والممثلات عقدين كاملين أعلى إيراداته قبل السوشال ميديا. استفتاء على رفض اللغة السينمائية السابقة. وعودة لصورة المرأة ذات الخيارين: تبقى شمال أو تبقى ملتزمة. “وأنا اللي كنت فاكرك مؤدبة”!

 الخطاب السلفي شعبوي بطبعه. كما يخفي جزءًا معتبرًا من حقيقة الروايات بحيث تظهر مثالية دائمًا. يبسّط جميع المستويات ويختزلها لمستوى واحد وخيارات ضيقة. والمعترض له السكين أو الحبس أو التكفير أو الاغتيال.

لذلك، جمع المخرج محمد سامي في تعليقه الأخير عن إسلام البحيري مجموع ما سبق: مخاطبة الأغلبية على هواها- الفقهاء مقدسون مثل زمن الفن الجميل، لا يمسهم نقد ونقف لهم احترامًا (لحوم العلماء مسمومة)- من يتجاوز الخط الأحمر أطالب بسجنه.

 المسافة ضئيلة جدًا- أصبحت- بين الفنان والداعية: الاثنان يسيران مع المجموع إلى الوراء.

معركة الشحاذ.. ماذا خسرنا بتنحية الفن انتصارًا لأبناء شكري مصطفى؟ | عمرو عبد الرازق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك