مع اقتراب الزحف العثماني على القسطنطينية، تقاربت الكنيسة الأرثوذكسية المسكونية مع الكاثوليك الرومان في مجلس فلورنسا (1431—1445) في محاولة لتأمين المدينة من السقوط الوشيك، لتحتج الكنيسة الروسية بإعلان استقلالها في 1448.
استسلمت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) في 1453 بسقوط عاصمتها القسطنطينية - المعروفة باسم روما الثانية - في يد السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي حولها لـ "إسلامبول"، ليبدأ الصراع على وراثة الإمبراطورية.
الفاتح أطلق على نفسه "محمد قيصر الروم" لأن المدينة كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، متذرعًا بأن له رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، لأن الكثير من أسلافه، وبينهم السلطان أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات. لتعزيز تلك المكانة، اقتبس الفاتح شعار الهلال والنجمة من راية البيزنطيين واستخدمه في العلم العثماني. عين بطريركًا جديدًا للقسطنطينية، وحصل منه على اعتراف بلقب "القيصر".
وقتها، أعلنت موسكو ارتداء عباءة قيادة الإيمان الأرثوذكسي المسيحي، وقدمت نفسها باعتبارها روما الثالثة، وأنها وريثة الأباطرة البيزنطيين. كنيسة روسيا أعلنت نفسها وريثا حقيقيا لكنيسة القسطنطينية، ونال رئيسها لقب بطريرك واضعًا نفسه بمرتبة بطاركة القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، وأورشليم.
ولتعزيز هذه المكانة، تزوج أمير موسكو وقيصر عموم روسيا إيفان الثالث "الكبير" من أميرة بيزنطية تدعى صوفيا بالايولوجينا عام 1472، واستخدم النسر ذا الوجهين "الرمز البيزنطي" كشعار لدولته.
بعد ما يزيد عن قرن من سقوط الدولة البيزنطية، أعلن إيفان الرابع قيام روسيا القيصرية، ليتحول الصراع الروسي – العثماني- الذي كان مرتكزًا على أسباب جيوسياسية ودينية- لحروب دموية بين الطرفين.
تواجه الروس والعثمانيون في 13 حربًا بدءًا من العام 1568 وحتى سقوطهما معًا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
اندلعت أولى الحروب "حرب أستراهان" بين عامي 1568 و1570 بسبب استيلاء روسيا على أستراهان التابعة لولاية القرم العثمانية، وانتهت بهزيمة العثمانيين.
أعاد العثمانيون الكرة في 1571، فدخلت قوات القرم العثمانية موسكو وأحرقتها، قبل أن يستعيد الروس الانتصار في معركة مولودي 1572. واستمرت سلسلة الحروب الأولى حتى 1574.
بعد قرن آخر، اندلعت "حرب موسكوفي" بين عامي 1676 و1681 بسبب رغبة روسيا في ضم أوكرانيا ورومانيا الخاضعتين للعثمانيين، لكنها فشلت ووقعت معاهدة انسحاب، ثم حرب 1686 ـ 1700، وانتهت بتوقيع اتفاق سلام بعد سيطرة روسيا على منطقة أزاك العثمانية.
في "حرب برود" 1710 ـ 1711 سعت القيصرية الروسية لضم المناطق الأرثوذكسية الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية في روسيا البيضاء والسويد، لكنها فشلت، وانتهت المعارك بانتصار العثمانيين.
وفي حرب النمسا 1735 ـ 1739، حاولت الإمبراطورية الروسية احتلال البلقان بدعوة من النمسا، وانتهت الحرب بتوقيع اتفاقية سلام بين النمسا والدولة العثمانية.
ثم اندلعت حرب 1768-1774 بعد اجتياح روسيا لبولندا الخاضعة للعثمانيين، فانتصرت روسيا، وانتهت بتوقيع معاهدة كوتشك كاينارجي في بلغاريا، وأصبحت القرم دولة مستقلة ورومانيا تحظى بالحكم الذاتي لكن تحت راية الدولة العثمانية، وأصبح من حق روسيا رعاية السكان الأرثوذكس الذين يعيشون في البلاد العثمانية.
وفي حرب 1787 ـ 1792، تحالف الروس والنمساويون ضد العثمانيين فدخلوا صربيا وبساربيا ورومانيا، وهزموا الجيوش العثمانية، لكن انطلاق الثورة الفرنسية أجبر النمسا على تسليم صربيا للعثمانيين بمعاهدة، وأعادت روسيا رومانيا وأوزي للعثمانيين، وضم الروس أزوف وبساربيا وبلاد القرم.
دخلت الدولتان في صدام جديد بين عامي 1806-1812 عندما شن الروس حملة لضم شرق مولدافيا لدعم الانتفاضة الصربية الأولى خشية من التقارب الفرنسي العثماني، حيث كانت روسيا تخوض حربًا ضد نابليون. انضم العثمانيون للحرب، لكنهم انهزموا.
انتقل الصراع إلى مرحلة جديدة عندما استندت الإمبراطورية الروسية على اتفاقية كوتشك كاينارجي باعتبارها راعية الأرثوذكس في البلاد العثمانية، فحركت ساحة المعركة إلى الولايات العثمانية في البحر المتوسط.
اندلعت حرب 1828 ـ 1829 بسبب دعم روسيا لاستقلال اليونان عن العثمانيين، وانتهت باتفاق معاهدة أدرنة ونشر أسطول روسي على السواحل اليونانية.
وقامت حرب القرم 1853 ـ 1856 بسبب رفض روسيا منح الدولة العثمانية امتيازات للكاثوليك الفرنسيين في الأماكن المقدسة في فلسطين، ومطالبتها بجعل الكلمة العليا للرهبان الأرثوذكس هناك. ولضمان تحقيق مطالبها، ضغطت روسيا باحتلال رومانيا.
انضمت بريطانيا وفرنسا ومصر للدولة العثمانية في تلك الحرب، وانهزم الروس، لكن الدولة العثمانية اضطرت لمنح المسيحيين بعض حقوق المساواة، ورفعت عنهم الجزية، وسمحت بدخولهم الجيش العثماني، على أن يدفع الرافضون مقابلًا ماديًا للإعفاء من الخدمة العسكرية.
وانطلقت حرب 1877 ـ 1878 بعد إعلان روسيا قيادة تحالف يضم بلغاريا، ورومانيا، وصربيا، والجبل الأسود ضد الدولة العثمانية، لمساعدة المواطنين المسيحيين المُقيمين تحت السيادة العثمانية - خاصة في المناطق البلقانية ولبنان وبعض المناطق السورية - وانتهت الحرب بانتصار روسيا.
شكلت الحرب العالمية الأولى نقطة فاصلة في الصراع بين الإمبراطوريتين اللتين تحاربتا في الحملة القوقازية ضمن الحرب 1914-1918، حيث سقطت الإمبراطورية الروسية خلالها وأعلنت الجمهورية عام 1917، قبل سقوط الدولة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية.
تزامن الحرب الأهلية الروسية التي أعقبت الثورة البلشفية عام 1917 وحروب الاستقلال التركية حمل فرصة تقارب بين من سيصبحون لاحقًا حكامًا للبلدين، فشهدت فترات من التعاون والاعتماد المتبادل.
ومع ميل تركيا الجديدة للبعد عن الصراع – وابتعادها بالتبعية عن الحرب العالمية الثانية – شهدت العلاقة مع روسيا مرحلة سلسة حتى خرجت روسيا من الحرب منتصرة. وباعتبارها "قوة عظمى، سعى جوزيف ستالين إلى إعادة المحافظات الشمالية الشرقية من الأناضول إلى الاتحاد السوفيتي، وطالب تركيا بالسيطرة المشتركة على مضيقي البوسفور والدردنيل.
لتأمين نفسها ضد الضغط السوفيتي المحمل بأحلام المد الشيوعي، انضمت تركيا إلى حلف الناتو في 1952، ثم شاركت في تأسيس حلف بغداد 1955.
في التسعينيات، دعمت تركيا التمرد الشيشاني ضد روسيا، بينما أيد الروس حزب العمال الكردستاني في كفاحه ضد الدولة التركية.
تنازع الطرفان النفوذ مجددًا في جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة حديثًا، فضلاً عن المنافسة الاستراتيجية في القوقاز.
بنهاية القرن العشرين، قرر الجانبان تخفيف حدة التوتر والتعاون والامتناع عن التنافس العسكري في البحر الأسود، لكن صراع النفوذ استمر.. في القوقاز، تعد روسيا الداعم الرئيسي لأرمينيا منافسة تركيا.
واشتبكت أذربيجان المدعومة من تركيا وأرمينيا المدعومة من روسيا مجددًا حول منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها.
بالإضافة، استخدمت روسيا القوة العسكرية في جورجيا ما عزز قوتها الصارمة في منطقة القوقاز على حساب مصالح تركيا التي عجزت عن منعها.
أدى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلى إحراج تركيا، التي رعت التتار في القرم لفترة طويلة، وهدد بتحويل البحر الأسود إلى بحيرة روسية.
مع ذلك، اختارت تركيا عدم المشاركة في العقوبات الغربية ضد روسيا.
وبعد ضم شبه جزيرة القرم، أعلن بوتين أن روسيا لن تترك أصولها في التاريخ المسيحي، معتبرًا أن القرم مهد الحضارة الروسية وقيادتها الأرثوذكسية للعالم أجمع.
فلسفة بوتين- بحسب موقع كوارتز- في أوكرانيا وسوريا تقوم على اعتباره وريث الإمبراطورية البيزنطية، فيعتبر سان بطرسبرج هي تدمر الشمال. وتوجه إلى سوريا لمقاومة داعش في "تدمر الجنوب"، باعتباره تعديا على الرسالة المسيحية.
ويتساءل الموقع عما سيفعل بوتين لمدينة أنطاكية، الموجودة سابقًأ في سوريا القديمة والآن تتبع تركيا، والتي يعتبرها المسيحيون الأرثوذكس أرضًا مقدسة حيث خرجت منها تسمية أتباع المسيح بـ "المسيحيين" لأول مرة
الميول التوسعية العثمانية بمساعدة جماعات الإسلام السياسي مقلقة لروسيا، التي تعلم أنها - رغم التطمينات التركية - ستكون الخطوة التالية للمطامع التركية من خلال النفوذ التركي في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، والمناطق المسلمة في روسيا.