بعد نهاية رمضان، يمكنك ملاحظة تكرار وثبات التسلسل الآتي، في ردود الأفعال جماهيريا ناحية مسلسلات رمضان عاما بعد عام:
1 – بعد أول يوم:
الحلقة الأولى من المسلسل “س” جامدة جدا، والممثل الفلاني هايل.
2 – بعد رابع أو خامس يوم:
مسلسلات رمضان كلها وحشة.
3 – بعد عاشر يوم:
بنشوف ملل أقسم بالله.
هذا النمط المتكرر يحتاج الى تفسير، خصوصا مع عدد مسلسلات رمضان الضخم. ما سبب هذا العجز؟.. هذا القصور؟.. هذا الفشل المتكرر؟
الطريقة المثالية لفهم الأسباب تبدأ من النظر لمسلسلات رمضان، في نطاقها الأصوب والأصلح. وهي ببساطة اعتبارها (صناعة) قبل اعتبارها (فن). صناعة تتحرك بالمعادلات والمعطيات الآتية:
1 – يختلف رمضان عن باقي شهور العام، في كونه الشهر الوحيد الذي يلتزم فيه كل أفراد الأسرة، بالتواجد في مواعيد ثابتة وشبه مضمونة في المنزل. من أجل تناول الإفطار.
2 – يلي ذلك حالة من التخمة الجماعية أولا. وحاجة لتسلية ما سهلة تتناسب مع هذه التخمة، ثانيا. تسلية يمكن أن يشبعها التلفزيون بسهولة، باعتبار الفرجة نشاطا بشريا لا يستلزم جهدا أو تركيزا.
3 – بالنسبة للشركات فتلك معادلة مثالية جدا للإعلانات؛ لأن مردود الإعلان تجاريا يتناسب طرديا مع عدد المتفرجين.
4 – نظرا لأن الإعلانات، وحدها، لا تصلح كمادة شيقة وفعالة لجذب الجمهور بالساعات، فالحل هو تطعيمها بمحتوى آخر. محتوى مثل المسلسلات والبرامج. هكذا فقط يمكن أن يتابع المتفرج ساعات من الإعلانات، نظير ساعات من المحتوى الآخر.
5 – بفضل ما سبق تتواجد دائرة إنتاج ومكاسب بين الكل. قنوات تحصد ملايين وملايين من الشركات والجهات التي ترغب في عرض إعلاناتها. وتدفع ملايين أقل لشراء هذا المحتوى من المسلسلات والبرامج، من الشركات والجهات التي تنتجها.
حقيقة رأفت الهجان بين التاريخ والسياسة: ١- الرواية الإسرائيلية
الأزمة في الدائرة الصناعية والتجارية السابقة، أنها أنتجت شروطا وعوامل غير فنية نهائيا. عوامل تشمل مثلا ضرورة أن يكون المسلسل من 30 حلقة. بحيث تعرض القناة خلاله مادة إعلانية منتظمة طوال الشهر.
عمليا من الصعب جدا كتابة قصة درامية شيقة ومترابطة الأحداث، تصل مدة عرضها إلى 15 – 20 ساعة، بحيث تصبح قادرة على تعبئة الـ30 حلقة المطلوبة.
في المسلسلات الأجنبية الدائرة الإنتاجية حاليا مختلفة تماما. قائمة على فكرة إنتاج مسلسل جيد، بحيث يمكن تسويقه مباشرة لملايين المتفرجين حول العالم. وبالتالي لا تتضمن الشروط مساحة زمنية طويلة. في الواقع العكس أصح، خصوصا أن المتفرج الغربي لا يملك أوقات فراغ مماثلة.
حاليا يدفع المتفرج الغربي مقابل لمشاهدة المسلسل الذي يريده، سواء بشرائه مباشرة من الإنترنت، أو بالاشتراك شهريا في شركات متخصصة مثل “نتفليكس وأمازون“، تتيح له هذا المحتوى وسط مكتبتها الكبيرة.
عندما تسمع مثلا عن موسم جديد من مسلسلات مثل “جيم أوف ثرونز” أو “سترينجر ثنجز” فنحن نتحدث في المتوسط عادة عن 10 حلقات، بإجمالي مدة عرض تصل إلى 6 أو 7 ساعات ليس إلا.
مستقبل الترفيه: كيف تحققت نبوءة مخرج تيتانك في لعبة العروش وأفنجرز؟ | حاتم منصور
كتابة الـ 6 ساعات من الممكن أن تستغرق عاما، بينما تصل مدة التنفيذ من تحضير وتصوير ومراحل ما بعد الإنتاج إلى 6 أشهر أو أكثر.. والميزانيات في تصاعد مستمر.
نتحدث عمليا عن معادلة إتقان، لا تختلف كثيرا عن الفيلم الهوليوودي الضخم؛ لأن كل دقيقة عرض تستغرق تقريبا نفس الوقت والجهد البشري والموارد المتاحة للدقيقة في الأفلام الضخمة.
في المقابل تتجه المسلسلات الرمضانية إلى الأسوأ مبدئيا حتى في مرحلة السيناريوهات؛ لأن كل مؤلف مُطالب بصياغة قصته في شكل ممطوط يصل إلى 15 أو 20 ساعة، والنتيجة واضحة وضوح الشمس.
حيل رخيصة لا تنتهي من أجل مط الأحداث. لا بأس من تكرار نفس المضمون والمغزى أكثر من مرة، وفي أكثر من مشهد دون داع. لا بأس من ابتكار شخصيات لا تضيف ولا تغير أي شيء في الأحداث. لا بأس من اختلاق حبكات جانبية لاستنزاف الوقت. لا بأس من مط حوار عادي بين شخصيتين بخصوص شيء ما، ليصل إلى 10 دقائق بدلا من دقيقة أو دقيقتين. لا بأس من مونولوج يتحدث به البطل فجأة مع نفسه. لا بأس من حشر شجار أو مطاردة ما، دون داع. لا بأس من كل شىء وأى شىء، يمكن أن يملأ دقائق اضافية على الشاشة!
من دفاتر صلاح أبو سيف.. الواقعية والرقابة والجنس والنقاد | أمجد جمال
والطريف هنا أن الكثير أدرك أن المتفرج يتابع الكثير عادة أول يومين أو ثلاثة في رمضان، ليختار ما سيتابعه طوال الشهر، فأصبحت الخدعة هي أن تبدأ مسلسلك بحدث ما مُشوق وسريع للجذب، ثم تبدأ تقديم الحشو و(الولا حاجة) بعد ذلك!
هذا المستوى المتدني للسيناريوهات أو (الورق) كما جرت العادة في التسمية، ليس نهاية المأساة. بل هو بدايتها؛ لأن جدول التنفيذ المطلوب لهذا السيناريو مضغوط جدا. والسبب في ذلك لا يعود لظهور رمضان سنويا فجأة بالطبع، بل يعود لجهات منتجة، لا تنوي أبدا ضخ أموالها في استثمار طويل الأجل!
اللعبة أن تبدأ الإنتاج، وأنت قريب من مرحلة بيع وتلقي ثمن مسلسلك الذي لم يتواجد بعد. ونتيجة ذلك أن الكثير مما تشاهده الآن، بدأ تصويره قبل رمضان بأسابيع معدودة.
هذا الضغط الزمني، يأتي على حساب الإتقان بالطبع. لا يوجد وقت لبروفات أو تحضير. لا يوجد وقت لتوجيه ممثلين وفنيين. لا يوجد وقت لإعادة تصوير مشهد أكثر من مرة حتى الوصول لنتيجة متقنة. لا يوجد وقت لمونتاج متقن. لا يوجد وقت لأي شىء، ولا صوت يعلو فوق صوت (يالا – يالا – بسرعة – بسرعة).
هل كان شكسبير غشاشًا؟ | مارك أمجد
بالإضافة لما سبق، توجد أيضا عيوب مستديمة ومتوارثة في الوسط الفني. عيوب تشمل مثلا أن دائرة الفرص مغلقة جدا، وطريقة اختراقها لا تعتمد على الموهبة والإبداع، بقدر ما تعتمد على العلاقات والمصالح.
توزيع الفرص الجديدة يتم عادة من منطلق: مين ابن مين – مين صاحب مين – مين من شلة مين – مين على علاقة جنسية مع مين.. إلخ المعطيات المنفصلة عن الفن.
بعد كل ما سبق من سلبيات يبقى السؤال: هل يمكن أن تشهد مسلسلات رمضان تحسنا في السنوات القادمة؟.. هل يمكن أن يثمر عدم الرضا بين الجمهور، عن معادلة إتقان ما؟
ترجيحي الشخصي هو لا. لأن الجودة المُتدنية والشكوى، لا تتعارض نهائيا للأسف مع دائرة صناعة مسلسلات رمضان أو معدلات متابعتها!
المتفرج الرمضاني الكسول المتخم بعد الإفطار، لا يقاطع.. لا يتوقف.. لا يغلق التلفزيون.. المتفرج الرمضاني يشكو ويشكو ويشكو من ملل وبطء وعدم منطقية الأحداث، بينما أقصى رد فعل حقيقي له، هو تغيير القناة ومشاهدة مسلسل آخر. وبهذه الطريقة العقيمة، فكل ما يفعله في الحقيقة هو شيء أشبه بطلب سندوتش آخر، من نفس المطعم الذي يشكو منه!
ما دمت تشاهد مسلسلات رمضان بالساعات فصاحب المطعم هو الرابح دائما، ولا يحتاج إلى تغيير طريقته. الجهات التي تمول الصناعة كلها في صورة إعلانات سوقت لك بالفعل إعلاناتها، وصناع المسلسلات من نجوم ومخرجين ومؤلفين وفنيين وخلافه، تلقوا ثمن مشاركاتهم.
الكل رابح ما عدا المتفرج الذي سيظل يشكو ويشكو ويشكو حتى رمضان القادم، ثم يجلس من جديد بعد الإفطار بمعدته المتخمة وكسله اللامتناهي، باحثا بالريموت عن وهم خيالي اسمه (مسلسل رمضاني متقن).
المعطيات الرديئة تؤدي دوما إلى نتائج رديئة. وكلمة (رديئة) هي الوصف الوحيد المهذب للدراما الرمضانية. ربما مهذب أكثر من اللازم. الوصف الدارج الأنسب في رأيي للدراما الرمضانية هو (شوية بيض).