لو كان الإخراج السينمائي يعني شيئًا، فهو تحويل الكلمات إلى منتج بصري/سمعي قائمًا بذاته ومعبرًا عنها.
رغم تلك الحقيقة، دائمًا ما حظي المخرجون الذين جمعوا موهبتي الإخراج والكلمات بمكانة خاصة. أسماء عديدة منذ فجر السينما تنافست على الإتيان بخلاصة الفن في عبارة قصيرة.
عبارة منسوبة للمخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك، الذي عرف عنه اهتمامه البالغ بالنصوص. ويحكى أن ممثلًا ناقشه عن تفاصيل دوره في فيلم، فأجابه: “إنها في السيناريو”، سأله الممثل: “ولكن ما هي الدوافع؟”، فرد: “راتبك عن الدور”.
مقولة منسوبة للمخرج الأمريكي هوارد هوكس، أحد عظماء الحقبة الكلاسيكية في هوليوود، وتنسب أحيانًا للمخرج “بيلي وايلدر”، أحد معاصري هوكس والمنتمي لنفس المدرسة. وأيًا كان مصدرها، فهي تعبر عن العصر الذي يطلق عليه أحيانًا “عصر سينما الاستوديو”، حيث نفوذ شركات الإنتاج على المبدع، وبالتالي تحول الأمر إلى ما يشبه المعادلة الرياضية.
مقولة شهيرة للمخرج الفرنسي جان لوك غودار، أحد مؤسسي ما عُرف بالموجة الفرنسية الجديدة في الستينيات. مقولة استلهمها أساسًا من تشارلي تشابلن: “كل ما تحتاجه لصناعة فيلم جيد هو حديقة، ورجل شرطة وفتاة جميلة”. التأثير الذي أحدثه المخرجان على فن السينما لعله الأوسع (كلٌ في زمانه)، ما يجعل المقولة بتنويعاتها مفهومة في سياق الأستذة، أو المبالغة الطريفة، أو حتى كناية عن بساطة الفن السينمائي، لكنها لو أخذت حرفيًا فهي فاقدة تمامًا للوجاهة.
على نفس المنهج يقول المخرج “ستيفن سبيلبرج”:
قبل الدخول في مشروع جديد، أقوم بإعادة مشاهدة أربعة أفلام، يكونون في العادة: The Seven Samurai، Lawrence of Arabia،It’s a Wonderful Life، وThe Searchers.
مشكلة العبارة أنها تتجاهل حقيقة أن الملل نسبي، فما يكون مثيرًا لشخص قد لا يكون كذلك لآخر.
هناك مقولات وتصريحات وفقرات أخرى أدلى بها أشهر مخرجي العالم، تستحق التوقف من كل محبي الفن والراغبين في احترافه يومًا ما.
اقرأ أيضًا: أساطير هوليوود يخوضون الحرب العالمية بسلاح الكاميرا (جزء 1)
ديفد فينشر مخرج Fight Club، وكريستوفر نولان مخرج Inception، اتفقا على أن المخرج يجب أن يكون ديكتاتورًا، فهو المسؤول الأول عن كل صغيرة وكبيرة، ويجب أن يتعامل بهذا الأساس.
يقول فينشر:
عليك أن تبادر بأخذ زمام المسؤولية، لأنك من سيحظى بكل اللوم إذا لم تسر الأمور بشكل صحيح.
ويقول نولان:
رغم أن من الرائع أن تحظى بفريق عمل ماهر، لكن يجب أن تؤهل نفسك للقيام بكل شيء، هذا أمر لا يجب التخلي عنه. ينبغي أن تكون حامل راية العمل، لأنك إن لم تفعل، لن يأبه الآخرون بفعله من أجلك. قد يبدو الأمر غرورًا، لكن لا يوجد سبيل آخر.
في صناعة الفنون جانب تقني وحرفي لا يجب إغفاله أو الاستهانة به، لكن الأعمال التي تخلّد هي التي تلمسنا وتحركنا على مستويات أبعد من الإبهار التقني والحرفي، هنا يأتي دور المشاعر.
المشاعر ليست مفيدة فقط للمتلقي بل والصانع أيضًا. هذا ما اتفق عليه مخرجان من جيلين مختلفين، حصلا على أوسكار أفضل مخرج.
مخرج فيلم Life of Pi، التايواني “آنج لي” يقول:
هناك طرق كثيرة لصناعة فيلم، بالنسبة لي يجب أن يكون الطريق قائده المشاعر، إنها الشيء الوحيد الذي أثق به عند صناعة أفلامي. المشاعر تخدم الشخصيات، الأهداف. فهي الدوافع بالنسبة لهم. أو على الأقل هي طوق النجاة لي في الوقت الذي لا أعرف ما يجب فعله.
أما مخرج Whiplash وLa La Land الأمريكي “داميين شازيل” فيقول:
أستطيع تحديد الأفلام التي تبدأ من تيمة فكرية أو سؤال ثقافي، وهي لا تكون بالإثارة الكافية. أريد أن أبدأ أفلامي من تجربة شعورية وحسية. إنني أبدأ بالمشاعر التي أريد إيصالها للجمهور.
اقرأ أيضًا: سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع
في كتابه “فن الإخراج السينمائي” يبوح المخرج “سيدني لوميت” بأكثر ما يغضبه من النقاد:
يتحدث النقاد عن الأسلوب باعتباره شيئًا منفصلًا عن الفيلم. يحتاجون إلى أن يكون الأسلوب واضحًا وبارزًا، لأنهم لا يرون حقًاً. إن قطعة رقيقة ورومانسية وممتعة تم الإعلان عنها باعتبارها فنًا لأن من السهل تحديدها على أنها شيء مختلف عن الواقعية. ليس من الصعب رؤية الأسلوب فى “جريمة قتل في قطار الشرق السريع”، لكن لا يكاد يوجد ناقد حدد الأسلوبية فى “أمير المدينة”.
إنه أكثر الأفلام الأسلوبية التى صنعتها. استطاع “أكيرا كيروساوا” أن يحدد هذا الأسلوب، ففي إحدى أكثر اللحظات إثارة فى حياتى الفنية، حدثني عن جمال الكاميرا وجمال الفيلم، لكنه كان يعنى الجمال فى علاقته العضوية بمادة الفيلم. وهذه العلاقة هى التى تميز بين أصحاب الأساليب الحقيقيين، ومن يستخدمون الأسلوب لمجرد الزخرفة، ومن السهل تمييز هؤلاء الأخيرين، وهذا هو السبب فى أن النقاد يحبونهم كثيرًا.
أن تصنع فيلمًا فأنت لا تعبر فقط عن موهبة، بل تمارس مهنة ممتعة، لا تفسد ذلك بالقلق من ردود الأفعال. هذا كان رأي “وودي آلن”:
اهتمامك يجب أن يكون بمتعة صناعة الفيلم، وأن تجتاز المشكلات والعيوب. وحين تنتهي وتنظر للمنتج النهائي تقول لنفسك: يا إلهي، عندما كتبت النص بدا عظيمًا لكنه الآن سيء، كيف حدث ذلك؟ ثم تهدأ لتقول: حسنًا، الفيلم المقبل سيكون أفضل، وتتناسى ما مضى وتبدأ في الجديد. لكنك لو كنت تنتظر أن يعجب النقاد أو أن يكسر الجمهور أبواب السينمات ويحطم أرقامًا قياسية في الإيرادات، فأنت بذلك ترهن متعتك الشخصية بذوق آخرين.
اقرأ أيضًا: خمسون عاما على الفيلم الذي غير مصير السينما الأمريكية
مثلما اختار بعض المخرجين المشاعر لكي تقودهم في مراحل صناعة الفيلم واتخاذ القرارات، اختار البعض الآخر “التيمة” كما سماها مخرج The Godfather فرانسيس فورد كوبولا، أو “الفكرة” كما سماها مخرج Mulholland Drive ديفد لينش. ويمكن إيجاد نقطة تلاقي تعريفية بين “التيمة” و”الفكرة” بسؤال: عن ماذا يدور الفيلم لو لخصناه بكلمة واحدة أو عبارة قصيرة؟
يقول كوبولا:
في كل مرة أصنع فيلمًا أكون على علم بالتيمة، أو الجوهر، في كلمة واحدة. أهمية هذا الأمر تأتي من أن معظم وظيفة المخرج هي اتخاذ القرارات. هل تريد أن يكون الشعر طويلًا أم قصيرًا؟ أن ترتدي بنطالًا أم فستانًا؟ بلحية أو بدون لحية؟ معرفة التيمة تساعد دائمًا عندما لا تعرف الإجابة.
يوافق ديفد لينش مع هذا الطرح بطريقته:
أول شيء عليك إيجاده هو فكرة، فكرة تجعلك تقع في غرامها. الفكرة تدلك على المزاج الذي تختاره للشخصيات وكيف يتحدثون. الفكرة تخبرك بالقصة، وتوضح لك كافة التفاصيل. وكل ما عليك فعله أن تظل مخلصا لتلك الفكرة أثناء تنفيذ الفيلم.
يرى عدد من المخرجين أن نقاط الضعف الشخصية والحرفية ليست مدعاة للخجل، بل أنها ما يصنع الفنان، لذا فيجب التصالح معها تمامًا. يقول مخرج The Shape of Water “جييرمو ديل تورو”:
عليك استخدام مواطن القوة والضعف معًا من أجل تحقيق التقدم. من المهم أن تعلم الشيء الذي تجيده والذي تود أن تفعله. لكن لا يوجد شخص يجيد كل شيء، ونحن لسنا فقط الأجزاء الجيدة مما نفعله، نحن أيضًا الأجزاء السيئة. والأسلوب ينبع أساسًا من الأشياء التي لا نفعلها جيدًا. فالفيلم الأول لستانلي كوبريك Fear and Desire، يبدو متصلبًا وعتيقًا بصورة لا تصدق، لكن ذلك هو أسلوبه. وهو ما أصبح يفعله لاحقًا بصورة أكثر ترشيدًا وإحكامًا. إذًا، فجوهر تميّز كوبريك بدأ أساسًا كنقطة ضعف.
وإذا كان ديل تورو تعرض لنقاط الضعف من الجوانب الحرفية، فإن “تشارلي كوفمان” مخرج Synecdoche, New York قد تناول نقاط الضعف ولكن من الجوانب الشخصية:
أعتقد جازمًا أن بك جرح أيضًا. وأعتقد جازمًا أنه خاص بك ومشترك في الوقت نفسه مع الجميع. أعتقد أنه الشيء الذي فيك، وعليك أن تخفيه وتحميه، وهو الشيء الذي لا بد من الرقص عليه بحذاء حديدي خمس مرات كل يوم، وهو الشيء الذي لن يبدو مثيرًا لأحد إن أزيلت عنه الحجب. هو الشيء الذي يجعلك ضعيفًا ومثيرًا للشفقة. هو الشيء الذي، بصدق شديد، يجعل الوقوع في حبك مستحيلًا. هو سرك، حتى عن نفسك، ولكنه الشيء الذي يريد أن يعيش. هو الشيء الذي يولد منه فنك، ورسمك، ورقصك، وموسيقاك، وبحثك الفلسفي، وسيناريوهاتك. ولو %8.