ربما أكبر إشكالية من الممكن أن تواجهها الكتابات الإنجيلية هي أن يسوع ليس كاتبها؛ فالأناجيل الأربعة القانونية أو التي تعترف بها الكنيسة، والتي تُعد المصدر الموثوق الوحيد لقصة المسيح طوال الـــ33 سنة التي قضاها على الأرض، كتبها أربعة من تلاميذه هُم: متى ومرقص ولوقا ويوحنا.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن الأناجيل الأربعة لم تُدون في أزمنة متطابقة. ففي الفصل الأول من كتابه “ألغاز الإنجيل” الصادر عن دار التكوين، يشير الباحث السوري في الميثولوجيا وتاريخ الأديان فراس السواح، إلى تلك النقطة فيقول:
وعليه، يذهب المؤلف في نظرياته إلى أن التلاميذ الأربعة لم يربطهم في حكيهم أي مسار، سواء زمني أو تفصيلي سردي. وللدلالة على ذلك، يورد في كتابه المذكور العديد من الاختلافات بين الأناجيل بخصوص أحداث قصة يسوع؛ مثل أن تذهب لقبره امرأة واحدة هي المجدلية حسب رواية يوحنا، بينما في رواية مرقص نجد ثلاث نساء، وفي متى نجد اثنتين.
يجزم السواح أن كاتبي الأناجيل مثلهم مثل بقية البشر، سجلوا حكايات تحكمها الانفعالات والمشاعر والتخيلات قبل أي شيء آخر، الأمر الذي تعارضه الكنيسة، التي ترى أن الكتاب المقدس كله، بأسفاره المكتوبة على مدار أزمنة متفاوتة، إنما هو وحي من الروح القدس.
ولعل السواح وغيره، أمثال الأب متى المسكين وقديما أثناسيوس ونسطور، تناولوا القضايا العقائدية بشكل أكاديمي فذ، عبر السجالات والدراسات التي ينقسم الشعب حولها لمؤيدين ومعارضين، حتى ظهرت في القرن العشرين حركة أدبية قررت أن تنحّي النصوص المقدسة جانبًا، وتتناول بدورها شخص يسوع من منظور لا يحكمه إلا عين مؤلف الرواية، التي هي في الأساس مجرد عمل مُتخيَل ليس لأحد أن يحاسبه أو يجرّمه.
نلاحظ ذلك حتى من عناوين تلك الكتب، فنجد الأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس ألّف روايتين هما: المسيح يصلب مرة ثانية والإغواء الأخير للمسيح.
وفي مقدمة الأخيرة الصادرة باللغة العربية عن منشورات الجمل، يعترف المؤلف أنه منذ صغره أرّقته معضلة الفصل بين ناسوت يسوع أي إنسانيته ولاهوته أي إلهيته، وأنه – كـازانتزاكيس – كان يتوق للتلامس مع الجانب الناسوتي أكثر.
نجد أيضًا الباحث الفرنسي جيلبرت سينويه يكتب رواية بعنوان أنا، يسوع، والروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل جوزيه ساراماجو يكتب الإنجيل يرويه المسيح. وجميعها كما نرى عناوين تؤكد إصرار هؤلاء الروائيين على وضع منظورهم العاطفي الخاص بشخص يسوع، بكلمات أخرى، أنسنة المسيح.
معجزة بشرية في القدس.. السلم الثابت في كنيسة القيامة
من المنطقي أن أي أديب سيقرر أن يتناول سيرة يسوع بشكل روائي، سيتحتم عليه بداية أن يسنّ موقفه – أو قُلْ موقف روايته – من حادثة ميلاد المسيح الإعجازية من عذراء. نجد الروائيين المذكورين في أغلبهم يميلون إلى حَبَل طبيعي شبيه بالذي تمر به أي أنثى بشرية.
ويهرب ساراماجو من تلك المسألة بخلق علاقة جنسية مستترة بين مريم ويوسف النجار لا يعرف بها “آدوناي”، شبيهة بحادثة آدم وحواء لما سقطا في الجنة وحاولا الاختباء من القدير. وفي روايته الإنجيل يرويه المسيح ينال الزوجان مريم ويوسف نسبة كبيرة من صفحات الكتاب، على عكس الأعمال الأخرى التي استخدمت مريم الأم عند الحاجة الدرامية.
أما كازانتزاكيس فهو يتعامل مع مريم وابنها مثل أي أم وابن، بل ويجمح في تشكيله لشخصية يسوع في روايته الإغواء الأخير للمسيح فيجعله شخصًا غير متزن يُصاب بنوبات صرع، وتشفق عليه أمه من هوسه بصنع الصلبان في ورشة النجارة.
لكن حتى ولو استقر هؤلاء الكُتّاب على مجيء طبيعي لإنسان المسيح إلى عالمنا، فقد اتفق معظمهم – إن لم يكن جميعهم – حول دراية مريم من البداية بالنهاية الدامية التي ستُختتم بها بشارته، وإدراكها أن ذلك كله يتم بمشيئة فوقية ليس لآدمي أن يتحكّم فيها.
الإيمان والدين.. أيهما الطريق إلى الآخر؟
من بين القضايا التي تضخمت على هامش حياة المسيح، علاقته بمريم المجدلية التي اقتنصت قدرًا متساويًا من الاهتمام سواء عند الباحثين أو الفنانين.
في عام 1981، صدرت عن دار نشر في لندن الطبعة الأولى من كتاب الدم المقدس والكأس المقدسة وتدور فكرته باختصار حول أن المسيح تزوج من مريم المجدلية وأنجب منها أولادًا، ثم أرسلها معهم لمرسيليا بجنوب فرنسا ليؤسسوا لحُكم ملوكي هناك، وهي الفكرة التي استند إليها الروائي الأمريكي ذو الشهرة الأوسع والمبيعات الأضخم دان براون عام 2003 في روايته المعروفة للقارئ وغير القارئ شيفرة دافنشي، والتي حُولت لفيلم سينمائي من بطولة “توم هانكس” كان أضعف فنيًا، لكنه زاد الطين بلة عند المتحفظين.
تمددت أبعاد شخصية مريم المجدلية بشكل أوسع وأكثر عمقًا في أيقونة نيكوس كازانتزاكيس الإغواء الأخير للمسيح حيث يجعل المؤلف المسيح على الصليب يفكر مئة مرة إن كان مصيره سيؤول للأفضل لو أنه تنازل عن وهم خلاص البشرية، وتزوج من المجدلية وأنجبت له أولادًا وعاشا في بيت صغير، ثم حوّل المخرج مارتن سكورسيزي الكتاب بنفس حذافيره الفجّة لفيلم سينمائي عام 1988 هيّج عليه المجتمع المحافظ خاصة في أوروبا.
جابرييل جارثيا ماركيز.. ماذا يفيد الواقع لو ألهمنا أدبًا رديئًا؟ | مارك أمجد
نفس الحبيبة المغضوب عليها نجدها في رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” في القسم الخاص بحياة رفاعة ابن النجار، الذي يذهب بعض مفسري أكواد الرواية بأنه لم يكن سوى رمز للسيد المسيح. وحسب تصريح أحد حرافيش محفوظ في إحدى جلسات النقاش، وهو قبطي بالمناسبة، فإن أستاذه كان حانيًا على شخصية مريم المجدلية في “أولاد حارتنا” أكثر من الإنجيل نفسه، ومن كتابات الأصوليين فيما بعد التي أظهرتها مجرد مومس.
وإن كانت هناك سمة غالبة بين كازانتزاكيس وساراماجو وجيلبرت سينويه وحتى دان براون، فهي تغليب العنصر الأنثوي وبسط هيمنته على قصة يسوع، في شكل مضاد لكتابات الإنجيل التي غلب عليها رغما عنها الطابع اليهودي الذكوري، الذي لا يرى حواء سوى كائن أتى للخليقة متأخرًا، وبمنحة من ضلع آدم.
كيف تحول باباوات الكنيسة الرومانية إلى حكام فعليين
في سبيل إفراد الأضواء لملك الملوك يسوع، صوّرت الروايات الإنجيلية الشخصيات السياسية التي تزامن وجودها مع حياته، بشكل كاريكاتوري يخلو من أي تقعر أو تحدب. مثل هيرودس الملك الذي ينال في القصة دور “السفاح الشرير” ويأمر بذبح كل أطفال بيت لحم حينما يتناهى لسمعه أن ملكًا جديدًا وُلد هو المسيح، بينما يؤرشف ساراماجوا في روايته لتاريخ ذلك الملك وكيف أنه كان محاطًا بالدسائس والمؤامرات التي أفضت به لجنون الاضطهاد. كذلك “بيلاطس” الوالي المُعين من قبل الرومان على اليهودية، يوضح جيلبرت أنه وقع في فخ دبّره له اليهود لما دفعوا بيسوع أمامه ليحاكمه، متحججين بأن ذلك المسيا (المسيح) المُدعي يناطح حكم الإمبراطور نفسه، وبالتالي إذا أطلقه بيلاطس حرًا فهو يخون روما، وبشاعرية ودقة يضمّن سينويه أحد مشاهد روايته حوارًا في قصر بيلاطس، بينه وبين زوجته كلوديا:
كلوديا: أنت مخطئ، فقد صادفت أشخاصًا في حياتي، لا أحد منهم يشبه هذا الرجل.
بيلاطس: طويل القامة، هذا صحيح، عيناه معبرتان بالتأكيد، لكن بالنسبة لما تبقى؟
كلوديا: أخطأت حينما حاكمته!
بيلاطس: أخطأت! لقد شاهدتِ مثلي تلك الحشود الهائجة وكنتِ شاهدة على فظاظة الكهنة، لقد أوقعوني في المصيدة.
تسخر كلوديا: حاكم روما القوي يقع في المصيدة!
أما نيكوس كازانتزاكيس، فيفرد في “الإغواء الأخير للمسيح” فصولًا يصنع فيها مصيرًا مغايرًا تمامًا لحبكة الإنجيل. وبدلًا من دورة الصلب والقيامة والصعود، يجعل المسيح شيخًا له زوجة وأبناء وبيت، يجلس على ربوة خضراء يتأمل حياته بعد أن هرب من درب الصليب. أما في روايته الأخرى “المسيح يصلب من جديد” فنجد أحداثها تدور في اليونان تحت الحكم العثماني، حيث تقوم الكنيسة هناك بتمثيل مسرحية “أسبوع الآلام” بشخصيات وهمية من الشعب، وينتهي الأمر بأن تنقلب المسرحية لجد ويسحلون الشخص الذي كان يمثل دور المسيح للوالي العثماني كي يصدر حكمًا بالصلب عليه، في استدعاء من نيكوس لنفس أحداث موت يسوع، الذي لم يدفعه إليه سوى أناس من قومه.
وكي يذهب يسوع إلى حتفه في كل رواية من تلك الروايات كان لا بد من واشٍ، وهو الشخصية التي كانت مُستفِزة للروائيين ربما أكثر من ملحمة الخلاص ذاتها. فشخصية يهوذا التي تعامل معها الإنجيل على أنها العضو المنشق من جماعة الحواريين ليلة خميس العهد، نظر إليها الأدباء على أنها الوجه الآخر للمسيح وأحيانا “حبيبه”، لأن يسوع لم تكن لعملية الخلاص التي أُرسل من أجلها أن تتم، لولا وشاية دراماتيكية تأتي من الخلف، وعن هذا القرب. وبذلك صار يسوع وكاتبو الأناجيل معه، مدينين جميعهم لذلك الخائن! لأنه بدونه لم تكن لتوجد من الأساس قصة تستحق التدوين.
هل تأثر النبي بالمسيحية النسطورية؟
ألغاز تراثية (3): بين معراج النبي محمد و معراج النبي موسي.. لغز ليلة 27 رجب | هاني عمارة
في ذكرى معروف الرصافي.. هل حان الوقت لمراجعة قرار منع كتابه الشخصية المحمدية؟ | مارك أمجد