كُتب التطويب والتمجيد وحدها لا تخلق مناخًا تزدهر فيه صورة الأديان في عقولنا. نحتاج لكتب تساعدنا على تجاوز مناطق كثيرة، لسبب أو لآخر، أصرّ الأولون أن يتركوها لنا على حالتها المُنزّلة الغامضة.
المسيحية الكاثوليكية على سبيل المثال ظلت حبيسة ما توارثته من خرافات دينية في الأزمنة التي أسكتت فيها كل صوت يخالف ما تتبناه الكنيسة، حتى في شأن علمي، كمركزية الأرض للكون.
لكن في زمننا الحاضر، مع انتفاء كل الحواجز أمام عملية النشر والانتشار، وتفجر أعمال نقدية وأدبية وسينمائية تعيد تأويل أساطير التوراة وتؤنّس عيسى، صار من الممكن للمسيحية أن تغربل ذاتها من فجواتها وخرافاتها.
العقلية النقدية الإسلامية حظت برموز أنارت الكثير من مواضع الغموض والتساؤل لديها مثل: نصر حامد أبو زيد، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، ووضاح صائب. وعلى رأس القائمة معروف الرصافي، الذي وضع مجلدًا ضخمًا في موضوع غير مسبوق، اسمه “الشخصية المحمدية”، شرّح فيه حياة النبي محمد وبيئته وظروف دعوته وتكوّن دولته وامتداد أمته.
أولهما: كونه كُتب في زمن لم تكن العقلية المسلمة فيه خرجت بعد من هاجس تاريخية النص، فالرصافي أنجز مخطوطته عام 1933. نحن الآن في 2019 ولدينا تنظيم دولي يقتل أبرياء عُزّل باسم الدين، فما بالك بالزمن الذي عاش فيه الرصافي؟!
ثانيهما: أن مؤلفه تمكن بصبر ورجاحة عقل من جمع كل ما يشغل بال المهتمين، من مسلمين وغير مسلمين، ليصبح واحد من أهم المراجع عن الطبيعة الشخصية للنبي محمد، الذي ولد على يديه الإسلام.
سنحاول في هذه المقالة – نظرًا لضخامة المجلد – حصر أهم الإشكاليات التي تعرض لها معروف الرصافي في كتابه الشخصية المحمدية. أو ما أسماه: حل اللغز المقدس.
يفرد معروف الرصافي في كتابه الشخصية المحمدية أوراقًا كثيرة لتفصيل جوانب مختلفة في شخصية النبي محمد كإنسان وُلد في بيئة زمانية وثقافية معينة، تأثر بها قبل أن يترك بصمته عليها.
بداية من ختم النبوة، والأحاديث التي اختلفت على موضعه من جسم النبي، مرورا بمعنى كلمة أمي. حيث يرى أن المقصود بالأميين وقتها هم الذين لم يملكوا كتابًا سماويًا كالتوراة والإنجيل. أي الأمميين – غير اليهود – في التعبير اليهودي، كونهم يعتقدون أن الله خصهم بكتاب من عنده.
وعلى عكس الشائع، يجزم المؤلف أن الرسول كان شخصًا غزير القراءة، واسع الاطلاع على تشريعات الأنبياء السابقين وعلى نتاج شعراء عصره. الأمر الذي جعله مُلِمًّا بكل كلمة تلاها من كلمات الوحي، وأنه امتلك بالمعرفة والحدس مفاتيح عقول الناس في زمنه، كأن يؤمنوا مثلًا بالجن وحكاياته، فيخبرهم أن الجن استمعوا إلى قرآنه. كما كان شخصًا كثير التأمل، جامح الخيال، دائم الانفراد بنفسه في غار حراء، حتى من قبل زمن النبوة.
لا يكتفي معروف الرصافي بالعرض، وإنما يرسم شخصية روائية شديدة الذكاء للنبي محمد، لديها حنكة في الكلام والتجارة والإقناع. رسمها بشكل روائي لأنه تحدث عن ملبسه من الرأس إلى القدمين. ماذا يلبس في البيت، وماذا يلبس إذا خرج للحرب. وعن الصفات النفسية: متى غضب، فتحمر عيناه ويصيبه صداع وتتيبس أعضاء جسده. وكيف كان يبدو في اللحظات التي يتنزل عليه فيها الوحي. عن ما أصابه من أمراض، وردت بها أخبار عن السيدة خديجة وماذا كانت تفعل لتخفف وطأتها.
ثم نعرف ماذا أحب أكثر.
في حياته أحب الرسول شيئين: الخيل والنساء. وعن زوجاته يتحدث معروف الرصافي واحدة واحدة، فيخصص لكل منهن سيرة تفصيلية من لحظة اللقاء الأول، مرورًا بخط سير العلاقة، وصولًا لنهايتها. فخديجة مثلًا كانت في البدء ربة عمله، وكانت تعرفه وتسمع عن سُمعته بحكم أنهما ينتميان لذات المجتمع القرشي، عكس ما تتداوله روايات كثيرة عن أن خديجة عرفته فقط لما استأجرته ليقوم لها بأعمال تجارتها.
والرصافي يرد هنا على الذين يتساءلون حول إقدام تاجرة ثرية على الزواج مع واحد من المُستأجَرين عندها يصغرها في السن، فيقول:
أي امرأة هذه التي تجد رجلًا في وسامة محمد ومهارته وإخلاصه، ولا تنجذب إليه أو تريده زوجًا؟!
وإليها ينسب الرصافي فضلًا كبيرًا في نجاح الدعوة المحمدية، فخديجة صدّقت محمدًا وآمنت برسالته في أصعب وقت.
ويتحدث عن السيدة عائشة، وعما قيل إن الوحي لم يكن ينزل إلا وهو في مخدعها دونا عن غيرها من زوجاته، وكانت أكثر زوجاته غيرة عليه، فقالت له مرة:
ما أرى ربك إلا يسارع في هواك
ورغم أنه تزوجها في سن صغيرة جدًا حسب رواية معظم الأحاديث، إلا أنه لم يحب زوجة مثلما أحبها، ويرى المؤلف أنه كان حبًا مختلفًا عن حبه لخديجة؛ لأن الأخيرة نظر لها بالأحرى بعين الاحترام والإخلاص، نظير رعايتها النفسية والمادية التي قدمتها في وقت من الأوقات، وكان من الممكن أن يتزوج عليها وهي لا تزال حية، لكن لم يمنعه من تلك الخطوة سوى عرفانه بالجميل تجاهها وتجاه مكانتها وسط سادات قريش.
معروف الرصافي يروي تفاصيل القصة استنادًا للأحاديث. وفي رأيه أن زينب لم تحب زيدًا من البداية، وإنما أُجبرت على الزواج منه، وأنها بإبلاغها له عما تمتم به الرسول في غيابه، اعتمدت أسلوبًا استراتيجيًا أنثويًا للتخلص منه؛ لأنها كانت على يقين أنه لن يجعلها على ذمته وهو يعرف أن رسوله الكريم أرادها.
الإيمان والدين.. أيهما الطريق إلى الآخر؟
بكلمات أخرى يريد الرصافي القول بأن حتى الوحي كان متفهمًا لعقول وعادات الناس الذين نزل عليهم. وهو ما يؤكده أيضًا باستثناء الرصافي، المستشرق الفرنسي إميل درمنغم في كتابه حياة محمد في عيون مستشرق. ويعتمد الكتاب المترجم للعربية عن دار الأهلية، على فكرة مفادها أن أي ديانة تتقولب بقالب بيئتها، قبل أن تؤثر عليها بتشريعاتها.
هذا بخصوص الوحي، أما روايات الأحاديث فيعترف الرصافي أنه غير قادر على الاستناد إليها في أي موضع من حياة الرسول يريد أن يتحرى الدقة بشأنه. يقول مثلًا:
إذا أردنا أن نعرف تاريخ ولادة النبي ورجعنا لكتب القوم سنرى في رواية ما أن ولادته أتت في عام الفيل، وفي أخرى يوم الفيل وفي ثالثة بعد الفيل بخمسين يومًا. كذلك موعد وفاة أبيه نجده يختلف من رواية لأخرى: فمرة نجده توفي وأمه حامل به، وفي رواية أخرى توفي الوالد قبيل ميلاده، وفي ثالثة نجده في المهد لحظة موت الأب. ولا يكتفي الرصافي بالطعن في مصداقية الروايات، وإنما يرى أن الأحاديث في مواقف عديدة ظلمت رسول الإسلام. وفي هذا الصدد نرشح للقارئ كتاب قتل الإسلام وتقديس الجُناة لوضاح صائب، الصادر عن دار الانتشار العربي، وهو كتاب مُفرد بكامله للبحث خلف رواة الأحاديث.
اللقاح الفكري.. ما تحتاجه لتكون قارئا واعيا (إنفوجرافيك)
طه حسين وعباس العقاد.. من هو عميد الأدب العربي حقًا؟
يرصد معروف الرصافي أن النبي محمدًا ظل ثلاث سنوات يباشر دعوته سرًا؛ نظرا لعدم توافر المناخ المناسب، وأنه طوال بقائه في مكة كانت وسيلته الوحيدة للدعوة هي الموعظة لاتقاء شر الكفار والمعارضين، فكانت الآية: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن. لكن بمجرد أن انتقل محمد إلى المدينة قويت شوكته والتف حوله المهاجرون والأنصار، ومن هذه اللحظة حلّ السيف كوسيلة رادعة لكل الكافرين محل الموعظة. يستدل الرصافي على هذه الآلية المرعبة بارتداد كثيرين بعد وفاة النبي.
ومن آراء المؤلف أن تلك الدولة الإسلامية التي بدأت بالقوة الغاشمة كانت أهدافها الأولى نهضوية أكثر منها دينية، أي أنها رمت لتأسيس إمبراطورية أكثر من إرسال الناس أفواجَا للجنة؛ لأن الرسول قَبَل الجزية من أهل الكتاب مقابل إبقائهم على دينهم، الأمر الذي يفسره الرصافي بأن النبي لم تكن لديه نوايا إصلاحية بقدر ما هي سياسية حضارية بهدف إقامة دولة.
ولعل المُرغِبات الجهادية التي لجأ إليها النبي، والمُستعمَلة حتى الآن، هي التي ساعدته في وقت قصير على تكوين جيش عظيم يليق بدولته. فجنّة الإسلام في السماء صحيح، لكن امبراطوريته أرضية متشربة بكل ما هو بشري. فمن ذا الذي يرفض الانضمام لجيش يعد مقاتليه بالنساء والغنائم والأموال في الدنيا والمتع في الآخرة؟!
لم تكن دعوة النبي في حد ذاتها هي الشيء المُستهجَن من قِبل أبناء بيئته وقتها. فقد واجهته مشكلة أخرى هي أنه لم يأت بمعجزة ظاهرة للعيون متحدية لها. فالمهاجمون الذين لم يتعرضوا له بالأذى كان أبسط رد على لسانهم: موسى شقّ البحر أمام بني إسرائيل، وجعل عصاه تتحول لثعبان، وجعل النيل دمًا، وعيسى أحيا الموتى وشفى البُرص والعُمي، اجعلنا نرى معجزتك كي نصدقك! والحق أن محمدًا لم يملك معجزة سوى القرآن، وحينما عاد لربه يشكو إليه أمره أتاه الوحي مؤكدا نفس الفكرة: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن.
ومن وجهة نظر معروف الرصافي فالوحي الإلهي كان واضحًا جدًا بخصوص أمر المعجزات، فالإسلام ليس كالمسيحية واليهودية، لا يقوم بالأساس على القصص الميثولوجية والغرائبيات وشق البحور وبعث الموتى، وإنما هو دين حضاري إنساني أتى ليقوّم العباد لا ليبهرهم. وعليه، فالرصافي يتعجب ويضحك من الذين يتقافزون كل يوم في شتى بقاع الأرض متشدقين بحوادث انشقاق القمر وإعجاز القرآن العلمي. مُنضمًّا في رأيه للدكتور نصر حامد أبو زيد في ما عُرف بتاريخية النص والتزامه، رغم محاولات التهويل والتقديس، بإطاره الزمني والمعرفي.
وفي كتابه المعجزة أو سبات العقل في الإسلام الصادر عن دار الساقي، يفرد جورج طرابيشي مُؤلَفًا بكامله لهذه القضية، ولا يبتعد كثيرًا في أطروحاته عن تأملات معروف الرصافي.
بين السياسة والبيولوجي: غرائزنا التي حيرت أديان السماء والأرض| رواية صحفية في دقائق
هل تأثر النبي بالمسيحية النسطورية؟
كنا قد ذكرنا في مستهل مقالتنا أن معروف الرصافي لا يعتبر الرسول أُمّيا بالمرة، وأنه كان على اطلاع بالكتب السماوية السابقة وأقاصيصها، التي لم تخرج قصص القرآن عن سياقها، وإن كان يأخذ عليها النسخ وعدم تدبر المنطقية في بعض المواضع، مثل حادثة وسوسة الشيطان لآدم وزوجته في الجنة، فهو يندهش من آراء المشايخ الذين يفسرون الواقعة بأن إبليس لم يكن مسموحًا له بدخول الجنة إلا لغرض الوسوسة. ويحاول أن يتخيل المشهد: يذهب إبليس للجنة فيمنع الملائكة ذلك الذي عصى وتجبر وطُرد، لكنه متى أخبرهم بأنه ذاهب ليسقط آدم وحواء، يرحبون به ويطلقونه!
في محاضرة شهيرة عن توراتيات القرآن عقدها يوسف زيدان أيام حكم الإخوان لمصر بقصر الإبداع بمدينة الإسكندرية، هاجم أحد الحاضرين، وكان ملتحيًا، زيدان في نقاط كثيرة بخصوص كلامه عن التوراة، فما كان من المُحاضر إلا أن ظل صامتًا طوال فترة التقريع، وفي النهاية قال له بمنتهى الرزانة: تمهل! لأنك إن نقضت شيئًا في كتابهم، فأنت بالأحرى تنقضه في كتابك أنت! هذا هو بالضبط ما يتحدث عنه الرصافي، فهو يرى أن محمدًا خاتم الأنبياء والمُرسَلين مَدين لتراث السابقين، بل على العكس، فكون القرآن يتضمن قصصًا مألوفة بالنسبة لليهود والنصارى، فهذا حقق له قدرًا من المصداقية سواء قَبلها أو رفضها الكتابيون في النهاية. وحتى الفروق الطفيفة التي أضفاها الوحي على مروياته الخاصة كي يدمغها بختمه القرآني الخاص، كأن نجد شخصية باسم مختلف أو مصير مغاير، فهذه أيضًا لم تزج بالقرآن خارج حارتنا التي ترعرع فيها عيسى وموسى.
ألغاز تراثية (2): أثر الصراع العباسي العلوي في صياغة فقه المواريث
ألغاز تراثية.. كيف أثرت الثقافات المختلفة على تحديد تاريخ ميلاد الرسول
شاعر وأديب عراقي. عضو مجلس المبعوثين العثماني في إسطنبول. اشتغل معظم حياته في التدريس ومارس الصحافة. صدر أول ديوان له ببيروت عام 1911، ترجم عن التركية وله العديد من المؤلفات النثرية والشعرية وديوانه طُبع عدة مرات. له العديد من المخطوطات التي لم تُطبع، ومنها هذا الكتاب الذي أنجزه عام 1933 في الفلوجة بالعراق، والذي صدر عن منشوارت الجمل طبعة أولى عام 2002 في 760 صفحة.
نسخة للطباعة